احتياطيات العملات المستقرة من سندات الخزانة الأمريكية تبلغ 182 مليار دولار وتحتل المرتبة 17 عالمياً متجاوزةً الإمارات وكوريا الجنوبية
شهدت العملات المستقرة، تلك الأصول الرقمية المصممة للحفاظ على قيمة ثابتة مرتبطة بعملة تقليدية مثل الدولار الأمريكي، نمواً هائلاً في السنوات الأخيرة. لم تعد مجرد أداة لتداول العملات المشفرة، بل أصبحت جزءاً أساسياً من البنية التحتية للتمويل اللامركزي (DeFi) وحتى التمويل التقليدي. يتطلب الحفاظ على استقرار قيمة هذه العملات امتلاك جهات الإصدار لاحتياطيات كبيرة وموثوقة تعادل أو تتجاوز القيمة السوقية للعملات المصدرة. تقليدياً، تتكون هذه الاحتياطيات من مزيج من النقد، وما يعادله نقداً، وسندات الدين الحكومية قصيرة الأجل، وخاصة سندات الخزانة الأمريكية (Treasury Bills or T-bills).
الأرقام الأخيرة حول حجم سندات الخزانة الأمريكية التي تحتفظ بها جهات إصدار العملات المستقرة المدعومة بالدولار الأمريكي مذهلة بحق وتؤكد الدور المتزايد لهذه الأصول الرقمية في النظام المالي العالمي. وفقاً للبيانات، تحتفظ أربع من أكبر جهات إصدار العملات المستقرة المدعومة بالدولار الأمريكي بما يقارب 182 مليار دولار في سندات الخزانة الأمريكية. هذا المبلغ ليس مجرد رقم كبير في عالم العملات المشفرة، بل يضعه في سياق أوسع مقارنة باحتياطيات الدول من الديون الأمريكية.
حجم هائل يضعها في مصاف الدول الكبرى
إذا ما قورن حجم احتياطيات سندات الخزانة الأمريكية التي تمتلكها هذه الجهات الأربع بإجمالي حيازات الدول المختلفة من ديون الحكومة الأمريكية، فإن الرقم 182 مليار دولار يضعها في المرتبة 17 على قائمة وزارة الخزانة الأمريكية للدول الحائزة لهذه السندات. هذا يعني أن جهات إصدار العملات المستقرة مجتمعة تحمل ديوناً أمريكية أكثر من دول بأكملها مثل الإمارات العربية المتحدة وكوريا الجنوبية.
يشمل هذا الرقم الكبير سندات الخزانة قصيرة الأجل، بالإضافة إلى الأموال المودعة في اتفاقيات إعادة الشراء لليلة واحدة (overnight repos) المضمونة بسندات الخزانة، وصناديق سوق المال التي تستثمر بشكل أساسي في ديون الخزانة الأمريكية. لو أخذنا في الاعتبار هذا المزيج الأوسع من الأصول المضمونة بسندات الخزانة، فإن حيازات هذه المجموعة ستقع بين حيازات النرويج (195.9 مليار دولار) والمملكة العربية السعودية (133.8 مليار دولار)، مما يؤكد حجم التأثير الذي أصبحت تتمتع به هذه الكيانات في سوق الديون السيادية الأمريكية.
اللاعبون الرئيسيون وحصتهم من سندات الخزانة
يهيمن على هذه المجموعة أربع جهات إصدار رئيسية للعملات المستقرة المدعومة بالدولار الأمريكي. كل واحدة منها تتبع استراتيجيات مختلفة قليلاً في إدارة احتياطياتها، ولكن جميعها تعتمد بشكل كبير على سندات الخزانة الأمريكية كأصل أساسي للاحتياطي.
تيثر (Tether) وعملتها USDT
تتصدر تيثر (Tether) القائمة بحيازاتها الضخمة من سندات الخزانة الأمريكية. وفقاً لشهادة الربع الأول لعام 2024، بلغت حيازات تيثر من سندات الخزانة 120 مليار دولار. صرح الرئيس التنفيذي للشركة، باولو أردوينو، في أواخر مايو الماضي بأن الشركة تحتفظ “بأكثر من 125 مليار دولار” في سندات الخزانة وأنها مستمرة في زيادة هذه الحيازات. يظهر هذا الإقبال الكبير على سندات الخزانة في احتياطيات تيثر بوضوح سبب هيمنتها على سوق العملات المستقرة وحجم تأثيرها.
سيركل (Circle) وعملتها USDC
تأتي سيركل (Circle)، المصدرة لعملة USDC، في المرتبة الثانية من حيث حجم الاحتياطيات. أظهر تقرير المحاسب الخاص بسيركل لشهر مايو حيازة 28.7 مليار دولار في سندات الخزانة و 26.5 مليار دولار في اتفاقيات إعادة الشراء لليلة واحدة. يبلغ إجمالي هذه الحيازات المدعومة بسندات الخزانة 55.2 مليار دولار، مما يؤكد أيضاً اعتماد سيركل الكبير على الديون الحكومية الأمريكية كجزء أساسي من احتياطياتها.
فيرست ديجيتال (First Digital) وعملتها FDUSD
تعد فيرست ديجيتال (First Digital) لاعباً صاعداً في سوق العملات المستقرة، وخاصة في آسيا. أظهرت لوحة معلومات الشركة بتاريخ 31 مايو أن إجمالي احتياطيات عملتها FDUSD بلغ 1.665 مليار دولار. من هذا المبلغ، يتم الاحتفاظ بنسبة 78% في سندات الخزانة الأمريكية، مما يعادل حوالي 1.3 مليار دولار. رغم أن حجم حيازاتها أقل بكثير من تيثر وسيركل، إلا أن نسبة الاعتماد على سندات الخزانة تظل مرتفعة وتؤكد الاتجاه العام بين جهات الإصدار.
باكسوس (Paxos) وعملتها PayPal USD (PYUSD)
تختلف استراتيجية باكسوس (Paxos) التي تصدر عملة PayPal USD (PYUSD) قليلاً، حيث تعتمد بشكل أساسي على اتفاقيات إعادة الشراء العكسية لليلة واحدة (overnight reverse-repo agreements) المضمونة بنسبة 97% بسندات الخزانة. مع قيمة متداولة تبلغ 878 مليون دولار، يشير هذا إلى حيازة ما يقرب من 880 مليون دولار من الديون الحكومية الأمريكية كضمان لهذه العملة. على الرغم من أن حجم PYUSD لا يزال صغيراً نسبياً مقارنةً بـ USDT و USDC، إلا أن التركيز على الديون الحكومية كضمان يتماشى مع معايير الاحتياطيات الآمنة.
بجمع هذه الأرقام، تصل إجمالي حيازات هذه الجهات الأربع من سندات الخزانة الأمريكية المباشرة والأصول المرتبطة بها إلى 182.4 مليار دولار وفقاً لبيانات وزارة الخزانة الأمريكية لشهر أبريل. هذا المبلغ يكفي لتجاوز حيازات دول مثل كوريا الجنوبية والإمارات العربية المتحدة، ويقل قليلاً عن حيازات النرويج.
لماذا تهيمن سندات الخزانة على الاحتياطيات؟
ليس من قبيل المصادفة أن تحتل سندات الخزانة الأمريكية هذا الموقع المهيمن في احتياطيات العملات المستقرة. هناك عدة أسباب رئيسية تدفع جهات الإصدار لشراء هذا النوع من الديون الحكومية، وخاصة السندات قصيرة الأجل (مثل سندات الخزانة التي تستحق خلال عام واحد):
- التسوية السريعة: يتم تسوية سندات الخزانة في نفس اليوم (T+0) عبر البنوك المقاصة المعتمدة، مما يوفر سيولة فورية تقريباً.
- السيولة اليومية: سوق سندات الخزانة هو الأكثر سيولة في العالم، مما يتيح لجهات الإصدار بيع كميات كبيرة بسرعة وسهولة لتلبية طلبات الاسترداد المفاجئة على العملات المستقرة.
- العائد المرتفع نسبياً: في ظل ارتفاع أسعار الفائدة عالمياً، تقدم سندات الخزانة الأمريكية حالياً عوائد تزيد عن 5%. هذا العائد يمثل مصدراً مهماً للإيرادات لجهات إصدار العملات المستقرة. على سبيل المثال، أظهرت شهادة تيثر الأخيرة أن سندات الخزانة واتفاقيات إعادة الشراء وصناديق سوق المال المعتمدة على سندات الخزانة مثلت أكثر من 80% من ضماناتها، مما ساهم في تحقيق أرباح بلغت مليار دولار في الربع الأول.
- الأمان والموثوقية: تعتبر سندات الخزانة الأمريكية واحدة من أكثر الأصول أماناً في العالم، مدعومة بالكامل من قبل حكومة الولايات المتحدة. هذا يوفر الثقة لحاملي العملات المستقرة بأن احتياطياتها آمنة ومستقرة.
تستخدم سيركل، على سبيل المثال، صندوق Circle Reserve Fund المسجل لدى هيئة الأوراق المالية والبورصات الأمريكية (SEC) للاحتفاظ بسنداتها واتفاقيات إعادة الشراء. هذا الصندوق مدار بواسطة بلاك روك (BlackRock) ويصمم لتوفير سيولة في نفس اليوم إذا زادت عمليات استرداد عملة USDC بشكل كبير.
العملات المستقرة كرافد للطلب على الديون الأمريكية
أشار باولو أردوينو، الرئيس التنفيذي لتيثر، إلى أن إصدار العملات المستقرة “يخلق طلباً إضافياً على الديون الأمريكية دون الاعتماد على النظام المصرفي التقليدي”. يؤكد هذا التصريح على دور العملات المستقرة كقناة جديدة ومباشرة لاستيعاب جزء من الدين الحكومي الأمريكي. وذكر أردوينو أن ترتيب تيثر كحائز كبير لسندات الخزانة يفوق دولاً مثل ألمانيا والإمارات وإسبانيا، مسلطاً الضوء على أهمية هذه الكيانات الجديدة في المشهد المالي العالمي.
قدمت سيركل وباكسوس حججاً مماثلة في ملفاتهما التنظيمية، مشيرين إلى أن الضمانات السائلة جداً والموزعة بشكل ضيق (مثل سندات الخزانة) تحمي حاملي العملات المستقرة خلال فترات ضغط السوق وتقلباته. هذا يعزز فكرة أن العملات المستقرة، وخاصة تلك المدعومة بالدولار الأمريكي، ليست مجرد جزء من عالم الكريبتو، بل أصبحت مرتبطة بشكل وثيق بالبنية التحتية المالية التقليدية.
الخلفية التنظيمية: نحو تقييد أصول الاحتياطي
في ظل النمو الكبير للعملات المستقرة وتأثيرها المتزايد على الأسواق المالية، تتزايد الدعوات لفرض تنظيمات أكثر صرامة على هذه الأصول، وخاصة فيما يتعلق بتكوين احتياطياتها. يدرس المشرعون في واشنطن وبروكسل حالياً مشاريع قوانين من شأنها تقييد أصول الاحتياطي للنقد وما يعادله فقط، وسندات الخزانة قصيرة الأجل.
هذه المقترحات التنظيمية تهدف بشكل أساسي إلى الحفاظ على التكوين الحالي لاحتياطيات العملات المستقرة، مع الحد من التنوع في أصول أخرى قد تعتبر أكثر خطورة، مثل الذهب أو سندات الشركات. على سبيل المثال، قانون GENIUS Act الذي أقره مجلس الشيوخ الأمريكي في يونيو الماضي، يسعى إلى إضفاء الطابع الرسمي على هذه القيود المتعلقة بتكوين الاحتياطيات.
في أوروبا، يفرض نظام الأسواق في الأصول المشفرة (MiCA – Markets in Crypto-Assets) بالفعل قيوداً مشابهة، حيث يحظر استخدام السلع الأساسية (مثل الذهب) كضمان للعملات المستقرة المرتبطة باليورو. هذا يظهر تقارباً في النهج التنظيمي عبر مختلف الهيئات القضائية الكبرى.
من جانبهم، يقول أمناء خزائن جهات إصدار العملات المستقرة إن القواعد المقترحة تتماشى بشكل كبير مع ملفهم الاستثماري الحالي الذي يركز على السيولة والأمان. ومع ذلك، فإنهم يحذرون من أن التركيز المفرط في فئة أصول واحدة (مثل سندات الخزانة) يربط سيولة العملة المستقرة بظروف التمويل التي يحددها الاحتياطي الفيدرالي. هذا يعني أن أي قيود يفرضها الاحتياطي الفيدرالي على الوصول إلى السيولة المدعومة بسندات الخزانة يمكن أن تؤثر بشكل مباشر على قدرة جهات الإصدار على تلبية طلبات الاسترداد، حتى لو كانت الاحتياطيات كافية من حيث القيمة.
خاتمة: تأثير متزايد في المشهد المالي
إن حقيقة أن جهات إصدار العملات المستقرة تحمل ما يقرب من 182 مليار دولار في سندات الخزانة الأمريكية ليست مجرد إحصائية مثيرة للاهتمام؛ إنها مؤشر واضح على التطور السريع لعالم الأصول الرقمية وتداخله المتزايد مع النظام المالي التقليدي. هذا الحجم الهائل من الديون الأمريكية التي تحتفظ بها هذه الكيانات يضعها في مكانة لم يكن يتصورها الكثيرون قبل بضع سنوات فقط.
إن مقارنة حيازاتهم بحيازات الدول يؤكد على حجم تأثيرهم المتزايد على سوق الديون السيادية الأمريكية. بالنسبة للولايات المتحدة، يمثل هذا الطلب الإضافي على ديونها مصدراً جديداً للاستثمار يساعد في تمويل الإنفاق الحكومي. وبالنسبة لسوق العملات المستقرة، فإن الاعتماد الكبير على سندات الخزانة يؤكد على السعي نحو الأمان والاستقرار والسيولة، وهي عوامل حاسمة للحفاظ على ربط العملة المستقرة بقيمتها المستهدفة.
مع استمرار نمو سوق العملات المستقرة وتزايد حجمها، من المرجح أن تظل هذه الكيانات لاعبين مهمين في سوق سندات الخزانة الأمريكية. ستظل التحديات التنظيمية والجدل حول تكوين الاحتياطيات أمراً محورياً، حيث تسعى الحكومات لضمان استقرار هذه الأصول وحماية المستهلكين، بينما تسعى جهات الإصدار للحفاظ على المرونة والكفاءة. بغض النظر عن مسار التنظيم، فإن العلاقة بين العملات المستقرة وسندات الخزانة الأمريكية تبدو راسخة، مما يفتح فصلاً جديداً في تقاطع التمويل الرقمي والتقليدي.
“`