سوق العملات المشفرة، المعروف بتقلباته الديناميكية وتحدياته المستمرة، يشهد في الآونة الأخيرة تحولات كبيرة وملفتة للنظر. فمع الارتفاع الحاد في عمليات تصفية العملات المشفرة، تبرز رسالة واضحة حول ازدياد استخدام المتداولين للرافعة المالية في الأشهر الأخيرة. هذا التوجه لا يشير فقط إلى مستويات أعلى من المخاطرة الكامنة في السوق، بل يؤدي أيضاً إلى تقلبات أكثر عنفاً ودراماتيكية في الأسعار، مما يجعل كل حركة سعرية أكبر تأثيراً وأكثر خطورة على المحافظ الاستثمارية. يكشف تقرير جديد صادر عن شركتي Glassnode و Fasanara عن تفاصيل مثيرة للقلق حول هذه الظاهرة، مسلطاً الضوء على كيفية تغير ديناميكيات السوق بشكل جذري مقارنة بالدورات السابقة، وكيف أن هذه التغيرات تعيد تشكيل فهمنا لمخاطر وفرص هذا القطاع المالي الناشئ. هذه الظاهرة تستدعي تحليلاً عميقاً لفهم الأبعاد الحقيقية لما يحدث تحت السطح.
الارتفاع المقلق في عمليات التصفية: مؤشر على المخاطر المتزايدة
لقد شهدنا قفزة هائلة في متوسط عمليات التصفية اليومية، وهي مؤشر حيوي على مدى تعرض المتداولين للمخاطر. ففي الدورة الحالية، ارتفعت عمليات تصفية رهانات الشراء (Long bets) من حوالي 28 مليون دولار في الدورة السابقة إلى 68 مليون دولار تقريباً. أما رهانات البيع (Shorts)، فقد شهدت ارتفاعاً مماثلاً ومثيراً للقلق من 15 مليون دولار إلى حوالي 45 مليون دولار. هذا الارتفاع ليس مجرد أرقام إحصائية؛ إنه يعكس تحولاً خطيراً يجعل عمليات البيع المفردة أكثر عنفاً وتأثيراً بكثير مما كانت عليه في الماضي. عندما يرتفع استخدام الرافعة المالية بشكل مفرط، تتضخم الخسائر المحتملة بشكل كبير، مما يؤدي إلى موجات تصفية متتالية تُعرف باسم “الشلالات” التي يمكن أن تدفع الأسعار إلى مستويات غير متوقعة في وقت قصير جداً، مما يباغت حتى المتداولين ذوي الخبرة. هذه الزيادة الحادة في حجم التصفية تؤكد المخاطر المتزايدة التي يواجهها المتداولون في سعيهم المحموم لتحقيق عوائد أكبر، وتجعل السوق أكثر حساسية لأي أخبار سلبية غير متوقعة أو تحركات سعرية مفاجئة وغير متوقعة. إن فهم هذه الديناميكيات المتشابكة أمر بالغ الأهمية لأي مستثمر أو متداول يسعى للبقاء في هذا السوق المتقلب والتنقل فيه بذكاء.
صدمة 10 أكتوبر: درس قاسٍ في تاريخ البيتكوين
لم تكن هذه التغيرات مجرد توقعات نظرية أو تحليلات مجردة، بل تجسدت في أحداث واقعية ملموسة هزت أركان السوق. كان يوم 10 أكتوبر شاهداً واضحاً على هذا التحول الجذري في سلوك سوق العملات المشفرة. في ذلك اليوم المشؤوم، شهد السوق تصفية ما يزيد عن 640 مليون دولار في رهانات الشراء في غضون ساعة واحدة فقط، وذلك عندما انخفض سعر البيتكوين بشكل حاد ومفاجئ من 121,000 دولار إلى 102,000 دولار. كان هذا الانهيار بمثابة “صدمة الجمعة السوداء المبكرة” لسوق العملات المشفرة، مخلفاً وراءه خسائر فادحة وشعوراً بالصدمة بين المتداولين. لم يقتصر التأثير على ذلك فحسب، بل انخفضت العقود المفتوحة (Open interest) بحوالي 22% في أقل من 12 ساعة، متراجعة من ما يقرب من 50 مليار دولار إلى 39 مليار دولار. شعر المتداولون بهذه الحركة بسرعة فائقة، حيث تم إغلاق عدد هائل من المراكز على نطاق وصفته Glassnode بأنه أحد أشد أحداث فك الارتباط (Deleveraging events) في تاريخ البيتكوين على الإطلاق. هذه الأحداث تذكرنا بقوة كيف يمكن للسوق أن يتفاعل بشكل قاسٍ ولا يرحم عندما تتراكم الرافعة المالية بشكل مفرط، وكيف يمكن أن تؤدي التصفية المتتالية إلى تسارع هبوط الأسعار بشكل لا يمكن السيطرة عليه، مما يخلق موجات من الذعر والبيع.
أسواق العقود الآجلة تسجل أرقاماً قياسية وتُركز المخاطر
لم يقتصر النمو الملحوظ على حجم التصفية وحده فحسب، بل امتد ليشمل أسواق العقود الآجلة (Futures markets) التي شهدت تضخماً كبيراً وغير مسبوق. فقد ارتفعت العقود المفتوحة إلى مستوى قياسي بلغ 68 مليار دولار، وتجاوز حجم تداول العقود الآجلة اليومي 69 مليار دولار في منتصف أكتوبر. هذا النمو الهائل في نشاط العقود الآجلة يشير إلى اهتمام متزايد من قبل المتداولين والمؤسسات على حد سواء بهذه الأدوات، ولكنه أيضاً يركز المخاطر في هذه الأدوات المالية المعقدة والخطيرة. تستحوذ العقود الدائمة (Perpetual contracts) الآن على أكثر من 90% من هذا النشاط، وهي عقود فريدة تعيد تعيين نفسها باستمرار، مما يزيد من تركيز المخاطر فيها بشكل كبير، حيث لا توجد تواريخ انتهاء صلاحية محددة، مما يسمح للمتداولين بالاحتفاظ بالمراكز لفترة طويلة مع دفع رسوم تمويل. إن ارتفاع متوسط عمليات التصفية اليومية في العقود الآجلة إلى 68 مليون دولار لرهانات الشراء و 45 مليون دولار لرهانات البيع يوضح التكاليف الباهظة التي يتكبدها المتداولون عند حدوث تقلبات كبيرة ومفاجئة. هذه الأرقام ليست مجرد إحصائيات جافة؛ إنها تعكس مستوى التوتر الهائل والمخاطرة الكامنة في صميم أسواق المشتقات المالية للعملات المشفرة، وتؤكد الحاجة إلى فهم عميق لهذه الأدوات قبل الانخراط فيها.
انتعاش التداول الفوري وعقلية “شراء الانخفاض” المتفائلة
في المقابل، لم يقتصر النشاط المكثف على أسواق العقود الآجلة وحدها؛ فقد أصبح التداول الفوري (Spot trading) أكثر نشاطاً وحيوية أيضاً، مما يشير إلى صحة أساسية في السوق. لقد ارتفع حجم تداول البيتكوين الفوري إلى نطاق يومي يتراوح بين 8 مليارات دولار و 22 مليار دولار، وهو ما يمثل ضعف ما كان عليه في الدورة السابقة تقريباً. هذا الارتفاع الملحوظ في حجم التداول الفوري يشير إلى دخول رؤوس أموال جديدة وتجدد اهتمام المستثمرين بشراء الأصول الأساسية مباشرة، وليس فقط المضاربة على أسعارها المستقبلية عبر المشتقات. والمثير للدهشة هو سلوك المتداولين خلال الانهيار الذي حدث في 10 أكتوبر، حيث ارتفع حجم التداول الفوري بالساعة إلى 7.3 مليار دولار. هذا الارتفاع الكبير لم يكن بسبب البيع الجماعي للهروب من السوق بفزع، بل على العكس، فقد اتجه العديد من المتداولين إلى “شراء الانخفاض” (buy the dip) بدلاً من التوجه نحو المخارج في محاولة لإنقاذ ما يمكن إنقاذه. لقد ساعد هذا التدفق القوي في تحويل مكان اكتشاف الأسعار، مما يشير إلى مرونة وقوة الطلب الأساسي على البيتكوين. هذا السلوك يعكس ثقة جزء كبير من المستثمرين في قيمة البيتكوين على المدى الطويل، ورغبتهم في الاستفادة من التصحيحات السعرية كفرص للشراء والتراكم، بدلاً من الذعر والبيع.
هيمنة البيتكوين وقدرة الشبكة على المعالجة: نحو مستقبل جديد
لم تتوقف الإيجابيات عند هذا الحد، فقد شهد البيتكوين تدفقات شهرية ضخمة تراوحت بين 40 مليار دولار و 190 مليار دولار، مما دفع القيمة السوقية المحققة (Realized market capitalization) إلى مستوى قياسي غير مسبوق بلغ 1.1 تريليون دولار. لقد تدفق ما يقرب من 730 مليار دولار إلى شبكة البيتكوين منذ أدنى مستوياتها في نوفمبر 2022، وهو مبلغ هائل يفوق جميع التدفقات التي شهدتها الشبكة في الدورات السابقة مجتمعة. هذه الأرقام المذهلة تدل على جاذبية البيتكوين كأصل استثماري فريد وقدرته الهائلة على جذب رؤوس أموال ضخمة من المستثمرين الأفراد والمؤسسات على حد سواء. نتيجة لذلك، ارتفعت حصة البيتكوين من إجمالي القيمة السوقية للعملات المشفرة من 38% في أواخر عام 2022 إلى 58% اليوم، بناءً على أرقام التقرير. هذه الهيمنة المتزايدة تؤكد مكانة البيتكوين كملك للعملات المشفرة وملاذ آمن في أوقات التقلبات وعدم اليقين. وفي إحصائية أخرى لافتة للنظر وتثير الدهشة: على مدى التسعين يوماً الماضية، عالجت شبكة البيتكوين ما يقرب من 7 تريليونات دولار من التحويلات. لقد تجاوزت هذه القدرة الإنتاجية الهائلة ما تعاملت معه شبكات البطاقات الرئيسية التقليدية في نفس الفترة. هذه القدرة الهائلة على المعالجة تعد سبباً رئيسياً يرى من خلاله بعض المشاركين أن البيتكوين ليس مجرد مخزن للقيمة، بل كمسار تسوية (Settlement rail) مهم ومتزايد الأهمية على الصعيد العالمي، مما يفتح آفاقاً جديدة لاستخدامه في المعاملات المالية الكبيرة والمعقدة.
أداء البيتكوين الحالي والخاتمة: نظرة مستقبلية
وقت كتابة هذا التقرير، كان سعر البيتكوين يتداول عند 93,165 دولاراً، مسجلاً ارتفاعاً بنسبة 6.5% يومياً وما يقرب من 7% أسبوعياً. هذا الأداء الإيجابي يؤكد مرونة البيتكوين وقدرته العالية على التعافي بعد فترات التقلب الشديد، مما يعزز ثقة المستثمرين فيه على المدى الطويل. في الختام، يرسل الارتفاع في تصفية العملات المشفرة والاعتماد المتزايد على الرافعة المالية رسالة واضحة حول المخاطر الكامنة في سوق العملات المشفرة، ولكنه يكشف أيضاً عن مرونة غير متوقعة من جانب المتداولين الفوريين واستعدادهم “لشراء الانخفاض”. ومع استمرار البيتكوين في إظهار هيمنته وقدراته الفائقة كمسار تسوية، يتضح أننا نشهد تطوراً مستمراً وديناميكياً في هذا القطاع المالي المثير. يجب على المستثمرين والمتداولين أن يكونوا على دراية تامة بهذه الديناميكيات المتغيرة، وأن يتبنوا استراتيجيات حكيمة لإدارة المخاطر لتحقيق النجاح في هذا السوق المعقد والمتطور باستمرار.
صورة مميزة من Unsplash، الرسم البياني من TradingView.
