الفوضى الجيوسياسية تدفع تدفقات العملات المشفرة الإيرانية للهبوط بأكثر من 76%
في عام 2025، شهدت سوق العملات المشفرة في إيران انكماشاً حاداً وغير مسبوق، متأثرة بمزيج معقد من التوترات الجيوسياسية المتصاعدة، عمليات تجميد واسعة النطاق لمحافظ مرتبطة بمنصة Tether، وسلسلة من الإخفاقات التشغيلية التي ضربت منصة Nobitex، وهي اللاعب الأكبر في المشهد الإيراني. هذا التراجع الجذري لم يكن مجرد تقلبات عادية في السوق، بل كان انعكاساً مباشراً لكيفية تأثير التحديات الأمنية والاقتصادية والسياسية على قطاع كان يعيش فترة ازدهار ملحوظة قبل هذه الأحداث.
لقد أدت هذه العوامل المتضافرة إلى زعزعة الثقة في السوق، مما أثر بشكل كبير على سلوك المستثمرين والمتداولين الإيرانيين. كانت العملات المشفرة قد اكتسبت شعبية هائلة في إيران كأداة للتحوط ضد التضخم، ووسيلة للتحويلات المالية الدولية، بل وحتى كطريق للتهرب من العقوبات الاقتصادية الصارمة. ومع ذلك، فإن الأحداث الأخيرة ألقت بظلالها على هذا المشهد، مما أثار تساؤلات جدية حول مستقبل الأصول الرقمية في البلاد.
الانكماش الحاد: أرقام صادمة وتراجعات قياسية
البيانات الصادرة عن شركة TRM Labs، الرائدة في تحليل البلوك تشين، كشفت عن حجم الصدمة التي تعرضت لها السوق. فقد أظهر تقريرها أن إجمالي تدفقات العملات المشفرة إلى إيران بين يناير ويوليو 2025 بلغ حوالي 3.7 مليار دولار أمريكي. هذا الرقم، على الرغم من ضخامته، يمثل انخفاضاً ملحوظاً بنسبة 11% مقارنة بالفترة نفسها من عام 2024. ولكن الأرقام الأكثر إثارة للقلق تكمن في التفاصيل الشهرية.
كان الانكماش أكثر وضوحاً بشكل خاص بعد شهر أبريل، حيث بدأت المؤشرات تتجه نحو الأسفل بشكل حاد. وشهدت التدفقات في شهر يونيو تراجعاً بأكثر من 50% على أساس سنوي، مما يعكس بداية لتدهور سريع في ثقة المتداولين ونشاط السوق. تبع ذلك انخفاض أكثر حدة وصادمة في شهر يوليو، حيث تجاوز التراجع نسبة 76% مقارنة بالشهر نفسه من العام السابق. هذا الانخفاض الدراماتيكي في غضون شهر واحد فقط يشير إلى نقطة تحول حرجة وتغيير جذري في ديناميكيات السوق الإيرانية للعملات المشفرة، ويؤكد على مدى هشاشة هذا القطاع أمام الصدمات الخارجية.
عاصفة مثالية: مزيج من الاختراقات والصراعات وتجميد المحافظ
لم يكن هذا الانكماش نتيجة لسبب واحد، بل كان نتاجاً لسلسلة من الأحداث الجيوسياسية والأمنية المتشابكة التي أثرت بشكل كبير على أسواق العملات المشفرة الإيرانية. يمكن تلخيص هذه العوامل الرئيسية التي هزت السوق فيما يلي:
- تعثر المفاوضات النووية: استمرار الجمود في المحادثات النووية مع إسرائيل ألقى بظلال من عدم اليقين على المناخ الاقتصادي والسياسي العام في إيران، مما أثر على قرارات الاستثمار.
- اندلاع صراع مسلح: شهد شهر يونيو اندلاع صراع مسلح في المنطقة، مما زاد من حالة التوتر وعدم الاستقرار، ودفع الكثيرين إلى سحب أموالهم من الأصول ذات المخاطر العالية.
- اختراق Nobitex: تعرضت منصة Nobitex، الأكبر في إيران، لاختراق أمني بقيمة 90 مليون دولار، مما أدى إلى تجميد السيولة وزعزعة الثقة في المنصات المحلية.
- تجميد محافظ Tether: أقدمت شركة Tether، مصدر أكبر عملة مستقرة (USDT)، على إدراج عنوان عملة مستقرة إيراني مهم في القائمة السوداء وتجميد أصوله، مما عطل سلاسل التوريد المالية المعتادة.
أدت هذه الصدمات المتزامنة إلى تغيير جذري في سلوك المتداولين الإيرانيين. فبدلاً من التركيز على المنصات المحلية، شهدت الفترة تدفقاً لرؤوس الأموال إلى البورصات الخارجية، والتي غالباً ما تكون ذات متطلبات “اعرف عميلك” (KYC) أقل صرامة. كما زاد استخدام سلاسل الكتل (البلوك تشين) والعملات المستقرة البديلة في محاولة للحفاظ على القدرة على الوصول إلى الأصول الرقمية والتحايل على القيود المتزايدة.
Nobitex: مركزية هشة ونقاط ضعف مكشوفة
على الرغم من موجة الاضطرابات العاتية، تمكنت Nobitex من الحفاظ على دورها المحوري كعمود فقري للنظام البيئي للعملات المشفرة في إيران. تشير تقارير عام 2025 إلى أن المنصة تعاملت مع أكثر من 87% من إجمالي حجم المعاملات المرتبطة بإيران، مما يؤكد هيمنتها المطلقة على السوق المحلية. من أصل أكثر من 3 مليارات دولار أمريكي تم معالجتها عبر المنصة، تحرك حوالي 2 مليار دولار أمريكي بشكل خاص عبر شبكة Tron، مع استخدام مكثف لعملتي TRC-20 USDT و TRX.
هذا التركيز الهائل للنشاط على منصة واحدة وشبكة محددة وفر كفاءة عالية للمستخدمين من حيث سرعة المعاملات وتكاليفها، لكنه في الوقت نفسه ضاعف المخاطر النظامية بشكل كبير. وقد تجلت هذه المخاطر بوضوح عندما استغلت مجموعة Predatory Sparrow الإلكترونية الإسرائيلية المزعومة ثغرات في البنية التحتية لـ Nobitex خلال ذروة الأعمال العدائية بين إيران وإسرائيل. هذا الاختراق لم يقتصر تأثيره على الخسائر المالية فحسب، بل كشف عن مدى هشاشة البنية التحتية الرقمية الحيوية في أوقات النزاع، وأظهر كيف يمكن أن تتحول نقاط القوة (مثل الكفاءة والتركيز) إلى نقاط ضعف كارثية عندما تواجه تهديدات خارجية.
أولويات مزدوجة: المراقبة والخصوصية وانكشاف الجهات الفاعلة الحكومية
كان لاختراق Nobitex الذي بلغت قيمته 90 مليون دولار أمريكي تداعيات أبعد من مجرد الخسائر المالية المباشرة. فقد أدى إلى تجميد السيولة في السوق، وإبطاء كبير في معالجة المعاملات، ودفع المستخدمين مؤقتاً نحو منصات تداول أصغر حجماً أو ذات مخاطر أعلى في محاولة للحفاظ على نشاطهم. لكن الأهم من ذلك، أن الحادث كشف عن “الأولويات المزدوجة” للنظام الإيراني فيما يتعلق بالعملات المشفرة.
فمن ناحية، يسعى النظام لتمكين المراقبة اللامحدودة وغير المبررة للمعاملات الرقمية، ومن ناحية أخرى، يحاول الحفاظ على خصوصية انتقائية للمستخدمين من كبار الشخصيات (VIP) أو الجهات الحكومية لضمان استمرار استخدامهم لهذه الأصول لأغراض معينة. تتبعت TRM Labs النشاط على السلسلة بعد الاختراق، وكشفت عن ارتباطات لجهات فاعلة بالحرس الثوري الإيراني وكيانات خاضعة للعقوبات الدولية مثل “غزة الآن”. هذا الكشف يؤكد الأبعاد السياسية العميقة للهجوم ويثير تساؤلات حول استخدام العملات المشفرة في تمويل أو دعم أنشطة مرتبطة بالدولة أو بكيانات خاضعة للعقوبات.
هروب رأس المال وتدخل Tether: صدمات متتالية
سرع التصعيد الجيوسياسي الذي شهدته المنطقة في يونيو من هروب رأس المال من البورصات المحلية بشكل كبير. وقد تجلى ذلك بوضوح في الارتفاع الهائل في التدفقات الخارجة من Nobitex، التي تجاوزت 150% في الأسبوع الذي سبق اندلاع الصراع. غالباً ما كانت هذه الأموال تنتقل إلى بورصات عالمية ذات إجراءات محدودة لمعرفة العميل (KYC) أو إلى منصات عالية المخاطر التي لا تطلب أي معلومات KYC على الإطلاق. هذا التحول يعكس رغبة المتداولين في إيجاد ملاذات أكثر أماناً أو أقل خضوعاً للتدقيق.
تفاقم هذا النزوح في شهر يوليو عندما أقدمت شركة Tether على تجميد 42 عنواناً مرتبطاً بإيران، وكان العديد منها مرتبطاً بمنصة Nobitex وجهات فاعلة تابعة للحرس الثوري الإيراني. هذا التجميد لم يعطل التدفقات المعاملاتية طويلة الأمد فحسب، بل دفع المستخدمين الإيرانيين بشكل جماعي للانتقال إلى عملات مستقرة بديلة، أبرزها DAI على شبكة Polygon. واللافت للنظر أن المؤثرين المحليين، والقنوات المتحالفة مع الحكومة، وحتى البورصات المحلية نفسها شجعت هذا الانتقال بنشاط. هذا يدل على قدرة المشاركين في السوق الإيرانية على التكيف السريع، ويؤكد أيضاً على استخدام النظام للأصول الرقمية كأداة حاسمة للتحايل على العقوبات الدولية.
المشهد التنظيمي المتغير: محاولة طهران لفرض السيطرة
في خضم هذه التطورات السريعة، استمرت البيئة التنظيمية المحلية في إيران في التحول بوتيرة متسارعة. ففي أغسطس 2025، صدر قانون جديد بشأن “ضريبة المضاربة والربح”، والذي فرض ضريبة على أرباح رأس المال الناتجة عن تداول العملات المشفرة. وبينما يتوقع أن يتم تطبيق القانون على مراحل، إلا أن هذا الإجراء يشير بوضوح إلى نية طهران تنظيم أسواق الأصول الرقمية رسمياً.
تخطط الحكومة الإيرانية لإدراج العملات المشفرة ضمن الإطار الضريبي للنظام، جنباً إلى جنب مع الأصول التقليدية مثل الذهب والعقارات والعملات الأجنبية. هذه الخطوة تمثل اعترافاً متزايداً بالعملات المشفرة كأصل مالي مشروع، وفي الوقت نفسه، محاولة لفرض السيطرة الحكومية عليها. وتهدف هذه الإجراءات إلى زيادة الإيرادات الحكومية وتوسيع نطاق المراقبة على الأنشطة المالية الرقمية، مما يعكس صراعاً مستمراً بين الرغبة في الاستفادة من التكنولوجيا والحرص على الحفاظ على السيطرة.
العملات المشفرة: أداة حاسمة للتهرب من العقوبات الإيرانية
بعيداً عن أسواق رأس المال وتقلباتها، تظل العملات المشفرة أداة حيوية وإستراتيجية لإيران في عمليات الشراء والتهرب من العقوبات الاقتصادية الدولية المفروضة عليها. فعلى سبيل المثال، يعتمد البائعون الصينيون بشكل متزايد على معاملات العملات المشفرة لتوريد مكونات الطائرات بدون طيار، وأجهزة الذكاء الاصطناعي المتطورة، والمعدات الكهربائية الضرورية لإيران. هذه المعاملات الرقمية توفر مستوى من السرية واللامركزية يصعب تحقيقه عبر الأنظمة المصرفية التقليدية الخاضعة للمراقبة الدولية.
لتعزيز هذه العمليات، تزدهر صناعة متطورة للتحايل على إجراءات “اعرف عميلك” (KYC) في السوق السوداء. هذه الصناعة توفر وثائق تعريف مزورة تساعد الجهات الإيرانية على التسجيل في البورصات الدولية وتجنب الكشف. هذا الاستخدام المزدوج للعملات المشفرة – كأداة استثمارية من جهة، وكمحرك للتهرب من العقوبات من جهة أخرى – يسلط الضوء على الأهمية الإستراتيجية التي توليها طهران للأصول الرقمية في سياستها الخارجية والاقتصادية.
خاتمة: صمود ومرونة في مواجهة العواصف الجيوسياسية
تُظهر الأحداث التي شهدتها سوق العملات المشفرة الإيرانية في عام 2025 بوضوح كيف يمكن للعوامل الجيوسياسية والأمنية أن تهز سوقاً رقمية بقوة غير متوقعة. على الرغم من التحديات الهائلة – التي تراوحت بين الاختراقات الأمنية الكبيرة وتجميد الأصول، وصولاً إلى الصراعات العسكرية واللوائح الحكومية الجديدة – أظهرت السوق قدرة ملحوظة على التكيف والمرونة. لقد استجاب المشاركون بسرعة للتهديدات المتغيرة، بتحويل أصولهم إلى منصات وشبكات وعملات مستقرة بديلة، مما يعكس طبيعة الابتكار والتكيف في عالم العملات المشفرة.
لم يتغير استخدام العملات المشفرة في إيران كأداة مالية للاستثمار والتبادل فحسب، بل ترسخ أيضاً دورها كآلية إستراتيجية لا غنى عنها للتهرب من العقوبات وتأمين الموارد الحيوية للبلاد. يستمر النظام في استغلال الطبيعة اللامركزية للأصول الرقمية لتجاوز القيود الدولية المفروضة، بينما يحاول في الوقت نفسه السيطرة عليها تنظيمياً لفرض الضرائب وتوسيع نطاق المراقبة. هذا التوازن الدقيق بين الاستفادة من اللامركزية وفرض السيطرة يعكس الطبيعة المعقدة والمستقبل غير المؤكد للعملات المشفرة في بلد يقع في قلب التوترات الجيوسياسية العالمية. يبقى السؤال حول مدى قدرة إيران على مواصلة هذا التوازن في ظل الضغوط المتزايدة، وما هي الابتكارات أو التحديات الجديدة التي قد تظهر في الأفق.
