في قلب أوروبا، تتأهب فرنسا لمراجعة مقترح قد يغير مسارها المالي والتكنولوجي بشكل جذري. تتجه الأنظار نحو مبادرة جريئة قد تحظر اليورو الرقمي وتفتح الأبواب على مصراعيها لاعتماد البيتكوين والأصول المشفرة. هذه الخطوة، التي يقودها إريك سيوتي، ليست مجرد تعديل تشريعي بل هي انعكاس لتوجهات عالمية متزايدة نحو اللامركزية والابتكار المالي. فما هي تفاصيل هذا المقترح؟ وماذا يعني لفرنسا ومستقبل العملات الرقمية؟
فرنسا تعيد تقييم موقفها من العملات الرقمية
تستعد الجمعية الوطنية الفرنسية لمناقشة اقتراح يقوده إريك سيوتي، عضو الاتحاد من أجل الجمهورية، يحمل في طياته رؤية جديدة لمستقبل فرنسا في عالم العملات الرقمية. يدعو المقترح إلى حظر اليورو الرقمي، مؤكداً على ضرورة التركيز بدلاً من ذلك على اليورو المستقر (stablecoins) وزيادة الاستثمار في الأصول المشفرة. هذه المبادرة تأتي في سياق تنامي الاهتمام العالمي بالعملات الرقمية اللامركزية، وتعكس رغبة فرنسا في تبني نهج مختلف عن المسار الذي تسلكه العديد من البنوك المركزية حول العالم.
يُعبر سيوتي عن قناعته بأن هذا التحرك سيعزز من مكانة فرنسا في الاقتصاد الرقمي المزدهر. ويشير إلى أن “هذا القرار المقترح يشجع الحكومة الفرنسية على دعم إطار تنظيمي أوروبي للأصول المشفرة”، مما يدل على طموح فرنسا ليس فقط بتغيير سياستها الداخلية بل بالتأثير على المشهد التنظيمي الأوروبي الأوسع.
التحول نحو اليورو المستقر والأصول المشفرة
يُعدّ الانتقال من اليورو الرقمي المقترح إلى التركيز على اليورو المستقر خطوة استراتيجية. فالعملات المستقرة، مثل USDT أو USDC، هي عملات رقمية مصممة للحفاظ على قيمة ثابتة بالنسبة لعملة ورقية مثل اليورو أو الدولار، مما يجعلها جسراً بين عالم العملات الرقمية المتقلب والأنظمة المالية التقليدية. يرى المؤيدون أن تبني اليورو المستقر يمكن أن يوفر استقراراً أكبر للاقتصاد الرقمي الفرنسي ويسهل المعاملات دون المخاطر المرتبطة بالتقلبات الشديدة للعملات المشفرة الأخرى.
يتماشى اقتراح سيوتي مع تحركات مماثلة في الولايات المتحدة، حيث يسعى المشرعون إلى تقييد العملات الرقمية للبنوك المركزية (CBDCs)، معتبرين أنها قد تهدد الخصوصية المالية وتزيد من سيطرة الدولة. كما يدعو المقترح الفرنسي إلى الانحراف عن إطار بازل لعام 2022 المتعلق بتنظيم التعرض للعملات المشفرة، مما يشير إلى رغبة فرنسا في وضع بصمتها الخاصة على القواعد التنظيمية العالمية بدلاً من الالتزام الصارم بالمعايير الحالية. هذا الانحراف قد يمنح المؤسسات المالية الفرنسية مرونة أكبر في التعامل مع الأصول المشفرة، مما يعزز الابتكار والاستثمار في هذا القطاع.
طموح فرنسا لامتلاك احتياطي من البيتكوين؟
على الرغم من أن اقتراح سيوتي لا يدعو صراحة إلى إنشاء احتياطي وطني من البيتكوين، إلا أن بعض المصادر تشير إلى أن هدفه الأبعد هو أن تمتلك فرنسا 2% من إجمالي المعروض من البيتكوين. في الوقت الحالي، تقدر هذه الكمية بنحو 48 مليار دولار، وهو مبلغ ضخم يعكس طموحاً كبيراً. هذه الفكرة ليست جديدة تماماً، فهي تعكس جهود حكومة الولايات المتحدة لبناء احتياطيات من البيتكوين والأصول المشفرة من خلال المصادرات المرتبطة بالقضايا الجنائية.
إن امتلاك احتياطي بهذا الحجم يمكن أن يمنح فرنسا نفوذاً اقتصادياً وسياسياً كبيراً في المشهد المالي الرقمي العالمي، خاصة وأن البيتكوين يُنظر إليه بشكل متزايد على أنه “الذهب الرقمي” ومخزن للقيمة في مواجهة التضخم وعدم اليقين الاقتصادي. يمكن أن يكون هذا الاحتياطي بمثابة تأمين ضد تقلبات العملات التقليدية ويعزز من سيادة فرنسا الاقتصادية في عالم يتغير بسرعة.
تعدين البيتكوين بالطاقة النووية: رؤية فرنسية للاستدامة
في خطوة أخرى مثيرة للاهتمام، اقترح حزب التجمع الوطني في أغسطس الماضي تعدين البيتكوين باستخدام الطاقة الفائضة من محطات الطاقة النووية الفرنسية. تمتلك فرنسا شبكة واسعة من محطات الطاقة النووية التي توفر جزءاً كبيراً من احتياجاتها الكهربائية. يرى مؤيدو هذه الخطة أنها طريقة مبتكرة لدمج تعدين البيتكوين في الاقتصاد الوطني، مع الاستفادة من مصدر طاقة مستدام وفائض.
تعدين البيتكوين يتطلب كميات هائلة من الطاقة، وقد أثيرت مخاوف بشأن بصمته الكربونية. لكن باستخدام الطاقة النووية، التي لا تنتج انبعاثات كربونية مباشرة، يمكن لفرنسا أن تقدم نموذجاً لتعدين البيتكوين المستدام بيئياً. هذا النهج لا يعالج المخاوف البيئية فحسب، بل يمكن أن يحول التكاليف الباهظة للطاقة النووية الفائضة إلى مصدر دخل جديد ويزيد من فعالية البنية التحتية للطاقة في البلاد. هذا يضع فرنسا في طليعة الدول التي تسعى إلى دمج العملات المشفرة مع أهداف الاستدامة.
دول أخرى تتبع نفس المسار
ليست فرنسا وحدها من تستكشف هذه المسارات الجديدة. فقد أظهر مشرعون في قيرغيزستان اهتماماً بإنشاء احتياطي للأصول الرقمية، وقد استرشدت استراتيجية البلاد في مجال العملات المشفرة بالمناقشات مع الرئيس التنفيذي السابق لشركة بينانس، تشانغبينغ “CZ” تشاو. وفي الوقت نفسه، أعلنت بوتان أيضاً عن خطط لإنشاء احتياطي استراتيجي من العملات المشفرة باستخدام البيتكوين والرموز الأخرى.
هذا التحول نحو الأصول الرقمية يسلط الضوء على الاهتمام المتزايد بالبيتكوين والعملات المشفرة في جميع أنحاء العالم كأدوات استراتيجية للاستثمار والسيادة الاقتصادية. وبينما تواصل الحكومة الفرنسية استكشاف هذه المقترحات، يظل مستقبل البيتكوين في فرنسا غامضاً ومثيراً للتكهنات، ولكنه بالتأكيد يشير إلى مرحلة جديدة في العلاقة بين الدول والعملات الرقمية.
الخاتمة:
إن المقترح الفرنسي بحظر اليورو الرقمي والتركيز على اليورو المستقر وتعزيز الاستثمار في الأصول المشفرة، بالإضافة إلى فكرة تعدين البيتكوين بالطاقة النووية، يمثل نقطة تحول محتملة في السياسة المالية الفرنسية. وبينما تتجه الأنظار نحو باريس، يتساءل الكثيرون عما إذا كانت فرنسا ستقود ثورة رقمية تعيد تعريف دور العملات المشفرة في الاقتصادات الوطنية. هذا التطور لا يؤثر على فرنسا وحدها، بل يرسل إشارات قوية إلى بقية العالم حول أهمية احتضان الابتكار المالي والتفكير خارج الصندوق في عصر التحول الرقمي.
