كوين بيس تحث وزارة الخزانة الأمريكية على تحديث قواعد مكافحة غسيل الأموال للأصول الرقمية: الابتكار هو المفتاح لوقف الجرائم المالية

في تطور مهم يعكس النضج المتزايد لقطاع الأصول الرقمية، أقدمت شركة كوين بيس (Coinbase)، إحدى عمالقة منصات تبادل العملات المشفرة في العالم، على تقديم دعوة رسمية لوزارة الخزانة الأمريكية. هذه الدعوة، التي جاءت في سياق رد تفصيلي ومفصل يمتد لثلاثين صفحة، تمحورت حول ضرورة تحديث وتطوير قواعد مكافحة غسيل الأموال (AML) الحالية لتتوافق مع طبيعة الأصول الرقمية الفريدة والتقنيات المتطورة التي تدعمها. جوهر رسالة كوين بيس واضح وجريء: إن الابتكار والتكنولوجيا، لا مجرد التشدد في فرض اللوائح الحالية أو زيادة الرقابة، هو السبيل الأكثر فعالية لمكافحة الجرائم المالية المتطورة التي تتخذ من هذا الفضاء الجديد مسرحًا لها. هذه المبادرة تأتي في لحظة حاسمة، حيث تتزايد وتيرة النقاشات القانونية والتشريعية حول كيفية دمج الأصول الرقمية في الأطر المالية التقليدية، وكيفية إيجاد التوازن الدقيق بين الحفاظ على الأمن المالي من جهة، ودعم الابتكار والنمو الاقتصادي الذي تقدمه هذه التقنيات من جهة أخرى.

لماذا تدعو كوين بيس للتحديث؟ الإطار الحالي غير فعال ويحتاج للابتكار

تجادل كوين بيس بأن الإطار التنظيمي الحالي، لا سيما القواعد المنبثقة عن قانون السرية المصرفية (BSA) والتي طُورت في فترة زمنية مختلفة تمامًا، قد أصبحت بالية وغير كافية لمواجهة التحديات المعاصرة في عالم الأصول الرقمية. توضح الشركة أن هذه القواعد، التي غالبًا ما تركز على جمع كميات هائلة من البيانات الشخصية للمستخدمين، لا تنجح بالقدر الكافي في تحديد أو منع النشاط الإجرامي الفعلي. في الواقع، قد تخلق هذه المتطلبات عبئًا لا مبرر له على الشركات الشرعية دون أن تحقق الفوائد المرجوة على صعيد الأمن. في ظل التطور السريع للتهديدات السيبرانية والأساليب التي يستخدمها المجرمون في استغلال نقاط الضعف، فإن الاعتماد على أنظمة قديمة يعيق التقدم ويفتح الباب أمام استغلالات جديدة. تؤكد كوين بيس أن الابتكار أصبح ضرورة ملحة وأساسية لمواجهة هذه التهديدات المتغيرة بفعالية أكبر، وأن النهج التقليدي القائم على “المطاردة واللحاق” لم يعد كافياً، بل يجب أن نتبنى استراتيجية استباقية تستغل قوة التكنولوجيا لتبقى في صدارة الجرائم المالية.

إطار عمل مكافحة غسيل الأموال المدفوع بالابتكار: توصيات كوين بيس الجريئة

ترى كوين بيس أن مستقبل مكافحة غسيل الأموال في قطاع الأصول الرقمية يكمن في دمج التكنولوجيا المتطورة والشراكات التعاونية الفعالة ضمن إطار عمل مرن ومبتكر. وقد قدمت الشركة في وثيقتها رؤية شاملة تتضمن عدة توصيات ملموسة تهدف إلى تحقيق هذا الهدف الطموح:

1. تبني التكنولوجيا الحديثة لامتثال أكثر ذكاءً وفعالية

• ملاذات آمنة تنظيمية للذكاء الاصطناعي وواجهات برمجة التطبيقات المتقدمة: تدعو كوين بيس إلى توفير بيئة تنظيمية تسمح للشركات باستخدام الذكاء الاصطناعي (AI) وواجهات برمجة التطبيقات (APIs) المتقدمة لأغراض مراقبة الامتثال دون خوف من العقوبات غير المبررة. تعتقد الشركة أن هذه الأدوات الحديثة، بقدراتها التحليلية الفائقة، تستطيع تحديد الأنماط المشبوهة بدقة وكفاءة أكبر بكثير من أنظمة الإبلاغ التقليدية التي غالبًا ما تنتج كماً هائلاً من التقارير منخفضة الجودة وتؤدي إلى تكديس البيانات، مما يعرقل عملية تحديد النشاط الإجرامي الفعلي ويجعلها أكثر صعوبة وتعقيدًا.
• الهويات اللامركزية وإثباتات المعرفة الصفرية لتعزيز الخصوصية والأمان: تقترح كوين بيس اعتماد تقنيات متطورة مثل الهويات اللامركزية (Decentralized IDs) وإثباتات المعرفة الصفرية (Zero-knowledge proofs) في عمليات التحقق من العملاء (KYC). هذه الأدوات لا توفر فقط مستويات عالية من الخصوصية والأمان للمستخدمين، بل تساهم أيضًا في تعزيز الامتثال. فهي تسمح للشركات بالتحقق من هوية المستخدمين دون الحاجة إلى تخزين أو الاحتفاظ بكميات كبيرة من بياناتهم الشخصية الحساسة، مما يقلل بشكل كبير من مخاطر اختراق البيانات ويعزز ثقة المستخدمين في المنصات الرقمية.
• أساليب “اعرف معاملتك” القائمة على البلوكتشين: تسلط كوين بيس الضوء على إمكانيات أساليب “اعرف معاملتك” (know-your-transaction) التي تعتمد على تقنية البلوكتشين. هذه التقنيات المبتكرة توفر مراقبة محسنة للنشاط غير المشروع، حيث يمكنها تتبع تدفق الأصول الرقمية عبر الشبكات اللامركزية بطرق لم تكن ممكنة أو بنفس الكفاءة في الأنظمة المالية التقليدية. هذا يوفر للجهات التنظيمية رؤية أعمق وأكثر شمولاً ودقة في حركة الأصول الرقمية، مما يسهل الكشف عن الأنشطة المشبوهة.

2. التركيز على النتائج لا القيود الجامدة: نحو كفاءة أكبر

تؤكد كوين بيس أن المتطلبات التنظيمية الصارمة وغير المرنة، التي لا تأخذ في الاعتبار طبيعة التكنولوجيا المتغيرة، غالبًا ما تؤدي إلى نتائج عكسية. فهي تنتج تقارير ذات جودة منخفضة وتسبب إرهاقًا للبيانات، مما يجعل عملية تحليلها وتحديد الأنماط الإجرامية منها مهمة شبه مستحيلة. الإطار الحالي، بحسب الشركة، يخلق حملاً زائداً من البيانات وعدم كفاءة واضحة في النظام. بدلاً من التركيز على الالتزام الحرفي بالقيود المفروضة، يجب أن تركز القواعد التنظيمية الجديدة على تحقيق النتائج المرجوة – ألا وهي وقف الجرائم المالية وحماية النظام. كما قال بول جريوال، كبير المسؤولين القانونيين في كوين بيس في تغريدة له: “عندما يبتكر الأشرار في الجرائم المالية، يحتاج الأخيار إلى الابتكار لمواكبة ذلك.” هذه العبارة البليغة تلخص جوهر رسالة كوين بيس: التكيف والابتكار ضروريان ليس فقط للبقاء في صدارة المجرمين، بل أيضًا لبناء نظام مالي رقمي أكثر أمانًا ومرونة.

شراكات أقوى بين القطاعين العام والخاص: بناء جسور الثقة والتعاون

ترى كوين بيس أن التعاون الوثيق والشراكة الحقيقية بين القطاعين العام والخاص هما حجر الزاوية في بناء إطار عمل فعال لمكافحة غسيل الأموال في العصر الرقمي. إن فهم تعقيدات التكنولوجيا يتطلب حوارًا مستمرًا بين المشرعين والجهات الفاعلة في الصناعة.

1. صناديق الاختبار التنظيمية: بيئة آمنة للابتكار

تدعو كوين بيس بقوة إلى إنشاء “صناديق اختبار تنظيمية” (Regulatory sandboxes)، وهي بيئات محكومة تسمح باختبار نماذج الامتثال والحلول التكنولوجية الجديدة في بيئة واقعية قبل تحويلها إلى قواعد تنظيمية دائمة وملزمة. توفر هذه الصناديق مساحة آمنة ومتحكم بها للتعاون المثمر بين المنظمين والجهات الصناعية، مما يضمن تطوير حلول فعالة ومناسبة دون إعاقة الابتكار أو التسبب في اضطرابات غير ضرورية في السوق. هذا النهج التجريبي يقلل من المخاطر المرتبطة بتطبيق قواعد جديدة بشكل فوري ويسمح بالتعديل والتحسين المستمر بناءً على الدروس المستفادة.

2. المشاركة المستمرة مع الجهات الفاعلة المسؤولة: فهم عميق للتكنولوجيا والمخاطر

تؤكد كوين بيس أيضًا على الأهمية البالغة لزيادة الانخراط والتعاون المستمر مع الجهات الفاعلة المسؤولة والخبراء في مجال الأصول الرقمية. فمن خلال هذا الانخراط المباشر والمستمر، يمكن للمنظمين تطوير فهم أعمق وأشمل للتقنيات والمخاطر المتطورة في هذا القطاع. إن غياب هذا الفهم الدقيق يمكن أن يؤدي إلى وضع قواعد تنظيمية غير عملية، غير فعالة، أو حتى ضارة، مما يعيق الابتكار دون أن يحقق الأهداف الأمنية المرجوة. ترى كوين بيس أن التعاون الوثيق هو مفتاح الإشراف الهادف والذكي الذي يخدم مصلحة الجميع.

السياق الأوسع: النقاش المحتدم حول تنظيم العملات المشفرة

إن تقديم كوين بيس لهذه التوصيات لا يأتي من فراغ، بل يندرج ضمن سياق أوسع يشهد نقاشًا محتدمًا ومستمرًا بين المشرعين حول كيفية وضع قواعد إشراف جديدة وفعالة على سوق العملات المشفرة المتنامي. ففي الآونة الأخيرة، على سبيل المثال، اقترح مجلس الشيوخ مشروع قانون يسعى إلى فرض سيطرة أكثر صرامة على التمويل اللامركزي (DeFi)، وهو قطاع حيوي ومبتكر ضمن منظومة العملات المشفرة. وقد حذر قادة الصناعة، بمن فيهم ممثلون عن كوين بيس، من أن مثل هذه المقترحات المتشددة قد تعيق بشكل كبير التنمية والابتكار في المجالات الرئيسية لهذا القطاع، مما قد يدفع بالمواهب ورؤوس الأموال إلى خارج الولايات المتحدة. هذا يؤكد على الحاجة الملحة والقصوى لإطار تنظيمي متوازن، يجمع بين متطلبات الأمن المالي ودعم الابتكار، لضمان استمرارية نمو هذا القطاع بشكل صحي ومسؤول.

الخاتمة: مستقبل مكافحة غسيل الأموال في العصر الرقمي يتطلب رؤية مبتكرة

رسالة كوين بيس إلى وزارة الخزانة الأمريكية واضحة ولا لبس فيها: يجب على الولايات المتحدة أن تتبنى نهجًا مستقبليًا واستباقيًا لمكافحة غسيل الأموال في عصر الأصول الرقمية. إن التمسك بقواعد بالية لم يعد خيارًا قابلاً للتطبيق في عالم يتغير بوتيرة غير مسبوقة. بدلاً من ذلك، يجب علينا أن نستغل قوة التكنولوجيا الحديثة، والابتكار المتجدد، والشراكات التعاونية البناءة لخلق إطار عمل فعال يحمي النظام المالي من الجرائم المتطورة، وفي نفس الوقت يدعم النمو والابتكار الذي يعد محركًا أساسيًا للاقتصاد الرقمي. إن التحدي كبير ومعقد، لكن الفرصة المتاحة أكبر بكثير لبناء نظام مالي رقمي أكثر أمانًا وشفافية وازدهارًا للجميع.

دعوة للعمل:

ما هو رأيك في مقترحات كوين بيس لتحديث قواعد مكافحة غسيل الأموال للأصول الرقمية؟ هل تعتقد أن الابتكار هو المفتاح لوقف الجرائم المالية؟ شاركنا أفكارك وتوقعاتك لمستقبل تنظيم الأصول الرقمية في قسم التعليقات أدناه!