“`html
بيتر شيف يقول إن البيتكوين لا يشبه الذهب إطلاقًا: هل هذا صحيح؟ (رأي)
في خضم الجدل الدائم حول طبيعة وقيمة العملات الرقمية، وخاصة البيتكوين، يبرز صوت بيتر شيف، المستثمر المخضرم ورئيس استراتيجيات Euro Pacific Capital، كأحد أبرز المنتقدين والمشككين. في أحدث هجوم له ضد البيتكوين وعالم التشفير بشكل عام، شن شيف هجومًا لاذعًا على نظرية “الذهب الرقمي” التي يستند إليها الكثيرون في تقييم البيتكوين. استند في حجته هذه المرة على مقارنة مباشرة بين تحركات أسعار الذهب والبيتكوين خلال فترة زمنية قصيرة، محاولًا إثبات عدم وجود أي قاسم مشترك بين الأصلين.
أشار شيف، المعروف بتأييده القوي للذهب كأصل استثماري آمن، إلى أن سعر الذهب شهد ارتفاعًا ملحوظًا بنسبة 3٪ خلال عطلة نهاية أسبوع واحدة، بينما انخفض متوسط سعر البيتكوين بنسبة 3٪ في نفس الفترة. بناءً على هذه الملاحظة، ترك شيف لمتابعيه استنتاج أن البيتكوين لا يمكن بأي حال من الأحوال أن يكون النسخة الرقمية من الذهب، متسائلاً كيف يمكن لشيء يُزعم أنه ذهب رقمي أن يتداول كصورة معكوسة للذهب الفعلي.
حجة بيتر شيف: تباين الأسعار اللحظي كدليل قاطع؟
كانت تغريدة بيتر شيف التي أثارت الجدل واضحة ومباشرة في طرحها. ففي الخامس من مايو 2025 (التاريخ المذكور في السياق الأصلي)، كتب شيف على منصة التواصل الاجتماعي:
“ارتفع الذهب بأكثر من 90 دولارًا اليوم. هذه زيادة بنسبة 3٪ عن إغلاق يوم الجمعة. خلال نفس الفترة الزمنية، انخفض سعر البيتكوين بنسبة 3٪. كيف يمكن لشيء يُزعم أنه نسخة رقمية من الذهب أن يتداول كصورة معكوسة للذهب؟ قد تكون البيتكوين رقمية، لكن لا شيء مشترك بينها وبين الذهب.”
تعتمد حجة شيف بشكل أساسي على مقارنة الأداء قصير المدى للغاية. يرى أنه إذا كان البيتكوين “ذهبًا رقميًا”، فيجب أن تتحرك أسعاره بشكل متزامن أو على الأقل في نفس الاتجاه مع الذهب، خاصة في أوقات معينة مثل تقلبات السوق أو كملاذ آمن. الانعكاس في الحركة السعرية خلال فترة 48 ساعة، حسب رأيه، هو دليل كافٍ لنسف هذه المقارنة تمامًا.
هذه النظرة، رغم بساطتها الظاهرية، تتجاهل العديد من العوامل وتعتمد على مغالطة منطقية. فالاعتماد على نافذة زمنية ضيقة جدًا لتحديد العلاقة الجوهرية بين أصلين مختلفين في طبيعتهما وآليات سوقهما هو تبسيط مخل قد يقود إلى استنتاجات غير دقيقة. هل يمكن حقًا اختزال العلاقة المعقدة بين الذهب والبيتكوين في حركة سعرية ليومين فقط؟
هل حجة شيف مغالطة؟ تحليل أعمق لمقارنة البيتكوين بالذهب
يرى العديد من المحللين والمؤيدين للبيتكوين أن حجة بيتر شيف قد تكون مغالطة وتفتقر إلى العمق. فالمدافعون عن البيتكوين وممثلو مجتمعاتها عبر الإنترنت عندما يقارنونها بالذهب، فإنهم يفعلون ذلك على سبيل القياس والمجاز (Analogy)، وليس المطابقة الحرفية. لا يبدو أن أحدًا، باستثناء بيتر شيف ربما، يعتقد أن البيتكوين هو شهادة إيداع للذهب أو صندوق استثمار متداول مرتبط بالذهب بشكل مباشر.
الفكرة الأساسية ليست أن البيتكوين هو الذهب في شكل رقمي بحت، بل أنه يمتلك خصائص معينة تجعله مشابهًا للذهب في دوره ووظيفته داخل النظام المالي، خاصة كأصل نادر ومخزن للقيمة خارج سيطرة الحكومات والبنوك المركزية. التشابه يكمن في المبادئ الأساسية وليس بالضرورة في تطابق حركة الأسعار اليومية أو الأسبوعية.
أصل تشبيه البيتكوين بالذهب: ورقة ساتوشي ناكاموتو البيضاء
تعود جذور هذا التشبيه إلى الورقة البيضاء التأسيسية للبيتكوين، التي نشرها الشخص أو المجموعة المجهولة المعروفة باسم ساتوشي ناكاموتو في 31 أكتوبر 2008. في وصفه لكيفية قيام شبكة البيتكوين بإنشاء إمدادات جديدة من العملة، كتب ناكاموتو:
“إن الإضافة المستمرة لكمية ثابتة من العملات الجديدة تشبه قيام عمال مناجم الذهب بإنفاق الموارد لإضافة الذهب إلى التداول. في حالتنا، يتم إنفاق وقت وحدة المعالجة المركزية (CPU) والكهرباء.”
هذا التشبيه الذي قدمه ساتوشي نفسه يوضح جوهر المقارنة. فكما يتطلب استخراج الذهب الحقيقي جهداً وموارد (عمالة، آلات، طاقة، وقت)، فإن “تعدين” عملات البيتكوين الجديدة يتطلب أيضًا إنفاق موارد حقيقية، ولكن في العالم الرقمي: قوة معالجة حاسوبية هائلة وطاقة كهربائية كبيرة. هذه العملية، المعروفة بـ “إثبات العمل” (Proof-of-Work)، تجعل من الصعب والمكلف إنشاء عملات جديدة، مما يضمن ندرتها النسبية ويمنع التضخم المفرط، تمامًا كما أن صعوبة وتكلفة استخراج الذهب تحد من المعروض منه في السوق.
وبالتالي، الفكرة هي أن البيتكوين يمتلك آلية ندرة مدمجة ومكلفة الإنتاج، تشبه إلى حد كبير ندرة الذهب وتكلفة استخراجه. كلاهما يتطلب “عملاً” للحصول عليه، وكلاهما لهما عرض محدود (البيتكوين محدودة بـ 21 مليون قطعة فقط بشكل مبرمج، بينما الذهب محدود جيولوجيًا). هذا هو أساس المقارنة الأولية التي بنى عليها لاحقًا مؤيدو البيتكوين فكرة “الذهب الرقمي”.
قيمة الذهب “الجوهرية” مقابل “إيمان” البيتكوين: فحص دقيق
في سياق نقاشه على تويتر، أدلى شيف بتصريح آخر مثير للجدل، حيث كتب لاحقًا في سلسلة التعليقات على منشوره الأصلي:
“الذهب هو قيمة جوهرية بنسبة 100%. البيتكوين هو إيمان بنسبة 100%.”
هذا الادعاء بأن للذهب “قيمة جوهرية” (Intrinsic Value) بنسبة 100% هو نقطة خلافية أخرى. يرى العديد من الاقتصاديين والمحللين أن الذهب في حد ذاته لا يمتلك قيمة جوهرية كبيرة بمعناها الحرفي (أي قيمة مشتقة من استخدامه المباشر كسلعة استهلاكية). صحيح أن له بعض الاستخدامات الصناعية والزخرفية، لكن هذه الاستخدامات لا تبرر قيمته السوقية الهائلة كأصل مالي. بدلاً من ذلك، يمتلك الذهب قيمة “ذرائعية” أو “استخدامية” (Instrumental Value) قوية كسلعة مالية، وهذه القيمة مستمدة من مجموعة خصائص فريدة تتعلق بطبيعته الفيزيائية والكيميائية والاقتصادية في سياق الحضارة الإنسانية.
أهم الخصائص التي منحت الذهب مكانته المالية الكلاسيكية عبر آلاف السنين هي:
- الندرة (Rarity): الذهب نادر نسبيًا في القشرة الأرضية وصعب الاستخراج بكميات كبيرة.
- الديمومة (Durability): الذهب لا يتآكل ولا يصدأ ولا يفقد بريقه بسهولة، مما يجعله مخزنًا دائمًا للقيمة عبر الزمن.
- القابلية للتبادل (Fungibility): أي أونصة من الذهب الخالص مطابقة لأي أونصة أخرى، مما يسهل تداولها وتقييمها بشكل موحد.
- القابلية للتحديد الكيميائي والقياسي (Identifiability/Standardization): يمكن تحديد نقاء الذهب ووزنه بدقة، مما يسمح بتوحيد قياسي عالمي.
- القابلية للقسمة (Divisibility): يمكن تقسيم الذهب إلى وحدات أصغر دون فقدان قيمته النسبية.
عندما تم تصميم البيتكوين، سعى مبتكرها (أو مبتكروها) بوعي إلى تجسيد العديد من هذه الخصائص الأساسية في شكل رقمي، ضمن شبكة حاسوبية مفتوحة، عامة، بلا حدود، ولامركزية:
- الندرة الرقمية: تم تحديد سقف أقصى لعدد عملات البيتكوين بـ 21 مليون، ولا يمكن تجاوزه، مما يحاكي الندرة الفيزيائية للذهب.
- الديمومة الرقمية: سجلات المعاملات (البلوك تشين) مصممة لتكون غير قابلة للتغيير ومقاومة للعبث، مما يمنحها ديمومة تشبه ديمومة الذهب.
- القابلية للتبادل الرقمي: كل وحدة بيتكوين (أو جزء منها، ساتوشي) قابلة للتبادل بوحدة أخرى من نفس النوع. (مع وجود نقاشات حول خصوصية المعاملات وتأثيرها على القابلية التامة للتبادل).
- القابلية للتحقق والتحديد: يمكن لأي شخص التحقق من صحة المعاملات والملكية على البلوك تشين بشفافية.
- القابلية للقسمة: يمكن تقسيم البيتكوين إلى أجزاء صغيرة جدًا (تصل إلى 100 مليون جزء، يسمى كل جزء ساتوشي)، مما يسهل استخدامها في معاملات متنوعة القيمة.
إذًا، الفكرة ليست أن البيتكوين هو ذهب، بل أنه مصمم ليكون “أصلًا حاملًا” رقميًا (Digital Bearer Asset) يمتلك خصائص مستوحاة من الذهب تجعله مناسبًا لأداء دور مشابه في العصر الرقمي.
البيتكوين والذهب كملاذات آمنة: مقارنة الأداء التاريخي
يأتي جزء كبير من الجدل حول مقارنة البيتكوين بالذهب من دورهما المحتمل كملاذ آمن أو كأداة للتحوط ضد تضخم العملات الورقية (الفيات) الناتج عن سياسات التيسير الكمي وطباعة النقود من قبل البنوك المركزية. تقليديًا، يلجأ المستثمرون، مثل بيتر شيف، إلى الذهب لهذا الغرض، حيث يُنظر إليه تاريخيًا على أنه يحتفظ بقيمته الشرائية في أوقات عدم اليقين الاقتصادي وانخفاض قيمة العملات.
تم بناء البيتكوين، في جزء كبير منه، لتقديم بديل رقمي لهذا الدور. يسعى حاملو البيتكوين إلى حماية ثرواتهم من تآكل القوة الشرائية للعملات التقليدية، تمامًا كما يفعل حاملو الذهب. السؤال الذي يطرح نفسه: هل نجحت البيتكوين حتى الآن في الارتقاء إلى مستوى سمعة الذهب كملاذ ضد العملات الورقية؟
عند النظر إلى الأداء التاريخي، نجد صورة معقدة ولكنها مثيرة للاهتمام. على مدى فترات زمنية طويلة نسبيًا (سنوات متعددة)، والتي تهم معظم أنواع المستثمرين على المدى الطويل، تفوقت البيتكوين بشكل كبير على الذهب من حيث العائد على الاستثمار. شهدت البيتكوين ارتفاعات هائلة في القيمة منذ إنشائها، مما جعلها واحدة من أفضل الأصول أداءً في العقد الماضي، متجاوزة الذهب بفارق شاسع.
ومع ذلك، يأتي هذا الأداء المذهل مصحوبًا بتقلبات سعرية عالية جدًا. يمكن أن تشهد البيتكوين انخفاضات حادة في قيمتها خلال فترات قصيرة، وهو ما يجعلها استثمارًا محفوفًا بالمخاطر بالنسبة للكثيرين، ويختلف عن الاستقرار النسبي الذي يوفره الذهب عادةً. حجة بيتر شيف حول الانخفاض بنسبة 3٪ خلال عطلة نهاية الأسبوع هي مثال على هذه التقلبات العالية.
ولكن، التركيز فقط على هذه التقلبات قصيرة المدى، كما يفعل شيف، يتجاهل الأداء القوي على المدى الطويل وقدرة البيتكوين على تحقيق عوائد ضخمة كتحوط ضد تدهور قيمة العملات الورقية على مدى سنوات. لم تفشل البيتكوين حتى الآن في تلبية التوقعات كـ “مخزن للقيمة” بالنسبة لأولئك الذين استثمروا فيها على المدى الطويل، بل إنها تفوقت على الذهب في هذا الدور من منظور العائد الإجمالي، وإن كان ذلك مع مستوى مخاطرة أعلى بكثير.
الخلاصة: فهم أعمق لعلاقة البيتكوين بالذهب
في الختام، يبدو أن حجة بيتر شيف بأن البيتكوين لا يشبه الذهب إطلاقًا، استنادًا إلى تباين الأسعار خلال عطلة نهاية أسبوع واحدة، هي حجة تبسيطية تتجاهل السياق الأوسع والأعمق للمقارنة. صحيح أن البيتكوين والذهب أصلان مختلفان لهما ديناميكيات سوق خاصة بهما، ولا يتوقع أن تتطابق تحركاتهما السعرية لحظة بلحظة أو يومًا بيوم.
لكن المقارنة بـ “الذهب الرقمي” لا تزال تحتفظ بقيمتها التحليلية عند فهمها بشكل صحيح. إنها تستند إلى التشابهات الأساسية في المبادئ: الندرة المبرمجة أو الجيولوجية، تكلفة الإنتاج أو الاستخراج التي تتطلب موارد حقيقية، والدور المحتمل كمخزن للقيمة وأصل للتحوط خارج النظام المالي التقليدي الذي تسيطر عليه الحكومات والبنوك المركزية. تم تصميم البيتكوين عمدًا لامتلاك خصائص رقمية تحاكي الخصائص الفيزيائية والكيميائية التي أعطت الذهب قيمته المالية التاريخية.
الاعتماد على التقلبات قصيرة الأجل لتفنيد هذه المقارنة يغفل عن الصورة الكبيرة والأداء طويل الأمد. بينما يظل الذهب أصلًا كلاسيكيًا ومستقرًا نسبيًا، تقدم البيتكوين بديلاً رقميًا حديثًا، وإن كان أكثر تقلبًا، أثبت قدرته على تحقيق عوائد كبيرة وتلبية حاجة متزايدة لأصول نادرة ومقاومة للرقابة في العصر الرقمي. الجدل سيستمر بلا شك، ولكن فهم طبيعة المقارنة كقياس على المبادئ وليس كتطابق حرفي هو المفتاح لتقييم نقدي بنّاء.
“`