بنك أوف أمريكا يستكشف العملات المستقرة: هل هي بداية ثورة المدفوعات؟
في خطوة تعكس التوجه المتزايد للمؤسسات المالية التقليدية نحو تبني التقنيات الحديثة، كشف براين موينيهان، الرئيس التنفيذي لبنك أوف أمريكا (Bank of America)، أن البنك يدرس بجدية إمكانية استخدام العملات المستقرة (Stablecoins) كوسيلة لتحديث أنظمة الدفع الخاصة به. جاء هذا الإعلان خلال مكالمة أرباح البنك للربع الثاني في 15 يوليو، حيث أكد موينيهان أن التركيز الأساسي للبنك هو استغلال هذه الأصول الرقمية كـ “أداة للمعاملات” تهدف إلى تبسيط وتيسير حركة تريليونات الدولارات التي يتم تداولها يوميًا عبر بنيته التحتية الضخمة.
لا يمثل هذا الإعلان مجرد اهتمام عابر بالعملات الرقمية، بل يشير إلى تحول استراتيجي محتمل داخل أحد أكبر البنوك في الولايات المتحدة. فمع سعي البنوك لتعزيز كفاءتها وتقليل تكاليف التشغيل، تبرز العملات المستقرة كحل واعد يمكنه تسريع عملية التسوية وتوفير الشفافية، خاصة في المعاملات الكبيرة والمعقدة التي يتعامل معها بنك أوف أمريكا يوميًا لعملائه من الشركات والمؤسسات المالية.
لماذا العملات المستقرة بالذات؟ إمكانات هائلة لأنظمة الدفع
تتمتع العملات المستقرة، مثل USDT وUSDC، بخصائص فريدة تجعلها جذابة للمؤسسات المالية الكبرى. على عكس العملات المشفرة المتقلبة مثل البيتكوين والإيثيريوم، تم تصميم العملات المستقرة للحفاظ على قيمة ثابتة، غالبًا ما تكون مرتبطة بعملة ورقية مثل الدولار الأمريكي أو سلة من الأصول. هذه الاستقرارية هي مفتاح قبولها في أنظمة الدفع التقليدية التي تتطلب اليقين في القيمة.
تتضمن الفوائد الرئيسية التي يمكن أن تقدمها العملات المستقرة لأنظمة الدفع ما يلي:
- السرعة والكفاءة: يمكن للمعاملات القائمة على البلوك تشين أن تتم في غضون ثوانٍ أو دقائق، مقارنةً بالأيام التي قد تستغرقها التحويلات المصرفية التقليدية، خاصة عبر الحدود.
- تخفيض التكاليف: يمكن أن يؤدي الاستغناء عن الوسطاء المتعددين في سلاسل الدفع التقليدية إلى خفض الرسوم بشكل كبير، مما يعود بالنفع على البنك وعملائه.
- الشفافية: توفر دفاتر الأستاذ اللامركزية (البلوك تشين) سجلاً غير قابل للتغيير لجميع المعاملات، مما يزيد من الشفافية ويقلل من فرص الاحتيال.
- إمكانية الوصول على مدار الساعة طوال أيام الأسبوع: تعمل شبكات البلوك تشين باستمرار، مما يتيح إتمام المعاملات في أي وقت، دون التقيد بساعات العمل المصرفية.
- التسوية الفورية تقريباً: يمكن للعملات المستقرة تسهيل التسوية شبه الفورية، مما يقلل من مخاطر التسوية ويحسن إدارة السيولة.
هذه الميزات مجتمعة تجعل العملات المستقرة مرشحاً قوياً لإحداث تحول جذري في كيفية إدارة البنوك الكبرى لتدفقاتها النقدية ومعاملات عملائها المعقدة، التي تُقدر بتريليونات الدولارات يوميًا.
خطوات بنك أوف أمريكا الأولية والتركيز على التنفيذ
أكد موينيهان أن بنك أوف أمريكا قد أنجز “عملاً جوهريًا” بالفعل في هذا المجال، مما يشير إلى أن اهتمام البنك بالعملات المستقرة ليس مجرد بحث نظري، بل يتضمن دراسات جدوى وتقييمات تفصيلية. يركز البنك حاليًا على تقييم مدى قابلية الفرصة للتوسع (scalability) عبر أنواع مختلفة من المعاملات. هذا يعني أن البنك لا ينظر إليها كحل جزئي، بل كجزء محتمل من بنية تحتية أوسع وأكثر مرونة للمدفوعات.
على الرغم من أن حجم سوق العملات المستقرة لا يزال صغيراً نسبياً مقارنةً بالتدفقات المصرفية التقليدية، إلا أن موينيهان أشار إلى أن التبني الأوسع قد يأتي مع تحسن الوضوح التنظيمي. هذا التصريح يسلط الضوء على أن البيئة التنظيمية لا تزال تشكل عاملاً حاسماً في مدى سرعة تبني المؤسسات الكبرى لهذه التقنيات. البنك، بحكم طبيعته، يعمل ضمن إطار تنظيمي صارم، وأي خطوة نحو تبني العملات المستقرة ستكون مرهونة بالامتثال الكامل لهذه اللوائح.
جهود سابقة وتعاون محتمل
لم يأت اهتمام بنك أوف أمريكا من فراغ. فقد كان البنك يقوم بتقييم هذا المجال منذ أوائل عام 2025 (ووفقاً لبعض التقارير، ربما قبل ذلك)، وقد ناقش إمكانية الإصدار المشترك لعملة مستقرة مع مؤسسات أمريكية كبرى أخرى، مثل جي بي مورغان (JPMorgan) وسيتي جروب (Citigroup). يشير هذا إلى وجود جهد تعاوني بين كبار اللاعبين في وول ستريت لاستكشاف حلول مشتركة قد تسرع من عملية التبني وتخلق معيارًا صناعيًا.
نمو العملات المستقرة يتجاوز الشبكات التقليدية
يأتي إعلان بنك أوف أمريكا في خضم تحول أوسع نطاقاً في التمويل التقليدي نحو مسارات الدفع المدعومة بالعملات المستقرة. في عام 2024، تجاوزت أحجام معاملات العملات المستقرة الإجماليات المجمعة لشركتي فيزا وماستركارد، وهما عملاقتا المدفوعات العالميتان. هذا الإنجاز يؤكد على القدرة الهائلة للعملات المستقرة على معالجة حجم كبير من المعاملات بكفاءة.
منذ ذلك الحين، ارتفعت قيمة العملات المستقرة المتداولة إلى 257 مليار دولار، وهو ما يقرب من ضعف مستواها في أوائل عام 2023. تهيمن عملتا تيثر (USDT) وسيركل (USDC) على هذا السوق، حيث تشكلان أكثر من 85% من الإجمالي. هذا النمو السريع يشير إلى طلب متزايد على هذه الأصول ليس فقط من مستخدمي العملات المشفرة، ولكن أيضاً من الشركات والمؤسسات التي تبحث عن طرق أكثر كفاءة لنقل القيمة.
الإطار التنظيمي: عقبة أم محفز؟
استجاب المشرعون الأمريكيون للارتفاع السريع في هذا القطاع من خلال الدفع نحو إطار تنظيمي أوضح. يُعد قانون GENIUS (GENIUS Act)، وهو محور أجندة الإدارة الحالية للأصول الرقمية، أحد أهم هذه الجهود. لقد مر القانون بمجلس الشيوخ في يونيو بدعم من الحزبين، مما يشير إلى توافق واسع على الحاجة إلى تنظيم هذا السوق المتنامي.
ومع ذلك، تعثر مشروع القانون في مجلس النواب هذا الأسبوع بعد أن قام المشرعون بعرقلة تصويت إجرائي. من المتوقع إجراء تصويت نهائي بحلول 17 يوليو. إن التطورات التشريعية حاسمة لضمان بيئة آمنة ومستقرة للبنوك والمؤسسات المالية للاستثمار في تقنيات العملات المستقرة. فالوضوح التنظيمي يوفر اليقين اللازم للبنوك الكبيرة للمضي قدمًا في خططها دون مخاوف من التحديات القانونية المستقبلية.
التحديات والمخاطر المحتملة
على الرغم من الإمكانات الواعدة، فإن تبني العملات المستقرة على نطاق واسع في القطاع المصرفي لا يخلو من التحديات والمخاطر. من أبرز هذه التحديات:
- التعقيد التنظيمي: لا يزال الإطار القانوني للعملات المستقرة في كثير من البلدان غامضاً أو غير مكتمل، مما قد يعيق التبني ويضع أعباء الامتثال على البنوك.
- التحيزات المؤسسية: قد تواجه البنوك مقاومة داخلية للتغيير، نظراً للاستثمار الكبير في البنية التحتية التقليدية والخوف من تعطيل الأنظمة القائمة.
- مخاطر السيولة والاحتياطيات: يجب أن تكون العملات المستقرة مدعومة باحتياطيات كافية وشفافة للحفاظ على استقرار قيمتها. أي نقص في الشفافية أو السيولة يمكن أن يؤدي إلى فقدان الثقة.
- الأمن السيبراني: كما هو الحال مع أي تقنية رقمية، هناك مخاطر تتعلق بالهجمات السيبرانية والقرصنة التي يمكن أن تستهدف البنية التحتية للعملات المستقرة.
- قابلية التوسع الفنية: يجب أن تكون شبكات البلوك تشين قادرة على معالجة عدد هائل من المعاملات لتلبية متطلبات بنك بحجم بنك أوف أمريكا.
- القبول العام: على الرغم من الاهتمام المتزايد، لا يزال الجمهور العام بحاجة إلى فهم أعمق للعملات المستقرة وآلياتها لضمان قبولها على نطاق واسع.
يتعين على بنك أوف أمريكا، وأي مؤسسة أخرى تسعى إلى هذا التبني، أن توازن بين الفرص والمخاطر، وأن تضع استراتيجيات قوية للتخفيف من التحديات المحتملة.
الآثار المستقبلية: هل تصبح العملات المستقرة حجر الزاوية في أنظمة التسوية؟
مع تحول المؤسسات الكبرى بشكل متزايد نحو مسارات الدفع القائمة على البلوك تشين، فإن نهج بنك أوف أمريكا الحذر والنشط في الوقت نفسه يشير إلى أن أكبر اللاعبين في وول ستريت قد يستعدون لجعل العملات المستقرة حجر الزاوية في أنظمة التسوية المستقبلية. هذا لا يعني استبدال العملات الورقية التقليدية، بل استكمالها بأدوات رقمية أكثر كفاءة ومرونة.
إن إمكانية استخدام العملات المستقرة لتبسيط المدفوعات عبر الحدود، وتمكين التسوية الفورية، وخفض التكاليف التشغيلية، تجعلها تقنية لا يمكن تجاهلها. وبينما لا يزال الطريق أمامها طويلاً، فإن الاهتمام المتزايد من قبل بنوك بحجم بنك أوف أمريكا هو مؤشر واضح على أن مستقبل المدفوعات يمر عبر هذه الأصول الرقمية المبتكرة.
تبقى العيون على كيفية تطور الإطار التنظيمي، وعلى مدى سرعة تكيف المؤسسات المالية مع هذه التقنيات الجديدة. ولكن المؤكد هو أن العملات المستقرة لم تعد مجرد مفهوم غامض في عالم الكريبتو، بل أصبحت جزءًا لا يتجزأ من المحادثات الاستراتيجية على أعلى المستويات في عالم التمويل التقليدي.
“`