في خضم موجة بيع واسعة النطاق تشهدها أسهم قطاع التكنولوجيا المتقدمة، شهدت أسهم شركة إنفيديا (NVIDIA)، عملاق صناعة شرائح الذكاء الاصطناعي والمعالجات الرسومية، تراجعًا ملحوظًا يوم الجمعة بعد انخفاضها الحاد يوم الخميس، مما يمدد سلسلة من التراجعات التي طالت أسهم القطاع. هذا التراجع المتواصل، الذي يأتي في فترة حساسة تشهد فيها الأسواق العالمية تقلبات كبيرة، يثير تساؤلات جدية حول مستقبل الشركة الرائدة في مجال الذكاء الاصطناعي وقدرتها على تجاوز العقبات. خاصة مع اقتراب موعد إعلان نتائج أرباحها الربعية الحاسمة يوم الأربعاء القادم، والذي يعتبر نقطة محورية للمستثمرين والمحللين على حد سواء. فما هي التحديات المعقدة التي تواجه إنفيديا في هذه المرحلة، وما هي التوقعات بشأن أدائها المالي والتكنولوجي في ظل هذه الظروف الاقتصادية والجيوسياسية المتقلبة؟ تحليل معمق للوضع الراهن يكشف عن طبقات متعددة من الضغوط التي تواجه هذه الشركة العملاقة.
تراجع أسهم إنفيديا وتوقعات الأرباح الحيوية: بين الضغط والتفاؤل
شهدت أسهم إنفيديا انخفاضًا بنسبة 2.4% لتصل إلى 182.39 دولارًا في تداولات ما قبل السوق يوم الجمعة، ليضاف هذا التراجع إلى انخفاض بنسبة 3.6% مسجل يوم الخميس. هذا النزيف المستمر دفع المستثمرين إلى الفرار من أسهم التكنولوجيا بشكل عام، باحثين عن ملاذات استثمارية أكثر استقرارًا في ظل عدم اليقين الاقتصادي. وقد انعكس هذا الاتجاه السلبي أيضًا على أسهم شركات الرقائق الأخرى، حيث تراجعت أسهم Advanced Micro Devices بنسبة 2.5%، بينما خسرت Broadcom 1.2% في تداولات ما قبل السوق، مما يشير إلى ضغط أوسع نطاقًا على قطاع أشباه الموصلات.
هذه الانخفاضات الحادة تضع إنفيديا تحت ضغط هائل لتقديم نتائج قوية ومقنعة في تقرير أرباحها المنتظر يوم الأربعاء. فالمستثمرون يترقبون بفارغ الصبر أي إشارة على صمود الشركة في وجه التحديات، أو أي مؤشر على مسار نمو مستقبلي واعد. ورغم هذه الضغوط، لا يزال محللو وول ستريت متفائلين بشكل عام بشأن آفاق الشركة على المدى المتوسط والطويل. يتوقع محلل KeyBanc، جون فينه، أن تعلن إنفيديا عن نتائج قوية للربع الثالث، وأن تقدم توجيهات أعلى للربع الرابع، مدفوعة بشكل أساسي بشحنات أجهزة Blackwell Ultra، وهي أحدث ابتكارات الشركة في مجال الذكاء الاصطناعي. وقد حافظ فينه على تصنيف “وزن زائد” للسهم وسعر مستهدف قدره 250 دولارًا، مما يعكس ثقته في قدرة إنفيديا على التعافي وتحقيق النمو.
أشار فينه أيضًا إلى أن الشركة تزيد من إنتاج شرائح Hopper الأقدم، وهو ما قد يشير إلى استئناف إنفيديا لشحناتها إلى الصين، وهي سوق ضخمة وحيوية للشركة. ومع ذلك، رفضت إنفيديا التعليق بشكل مباشر على خططها لاستئناف الشحنات إلى السوق الصينية، مما يترك الباب مفتوحًا للتكهنات. كانت الشركة قد أعلنت في السابق أنها لا تفترض أي إيرادات قادمة من الصين بسبب القيود التجارية، خاصة وأن بكين تشجع الشركات المحلية بقوة على عدم الاعتماد على الأجهزة الأمريكية، في إطار سعيها لتحقيق الاكتفاء الذاتي التكنولوجي. هذه التطورات تضع إنفيديا في موقف دبلوماسي واقتصادي دقيق.
التشريعات الأمريكية وتحديات التصدير: صراع المصالح الجيوسياسية
يشكل النقاش المستمر حول صادرات شرائح الذكاء الاصطناعي المتقدمة ضغطًا جديدًا ومستمرًا على إنفيديا. ففي خطوة تعكس التوترات الجيوسياسية المتصاعدة، تدعم كل من مايكروسوفت وأمازون تشريعًا مقترحًا في الولايات المتحدة يطالب شركات الرقائق الأمريكية بتلبية الطلب المحلي أولاً قبل تصدير المنتجات الحيوية إلى الصين والبلدان الأخرى الخاضعة للحظر. هذا التشريع، إذا تم إقراره، يمكن أن يغير بشكل جذري استراتيجيات التصدير لشركات مثل إنفيديا.
إنفيديا، من جانبها، تعارض بشدة هذه السياسة المقترحة، معتبرة إياها ضارة بمصالحها التجارية والابتكارية. فقد ذكرت صحيفة وول ستريت جورنال أن الشركة تعارض هذه المتطلبات المقترحة بشكل علني. وفي بيان قدمه متحدث باسم إنفيديا إلى Barron’s يوم الجمعة، أكدت الشركة أنها لا تبيع منتجات مقيدة “لخصوم” الولايات المتحدة على حساب الشركات الأمريكية، مشددة على التزامها باللوائح والقوانين. وأضاف المتحدث: “المبيعات للعملاء المرخصين حول العالم لا تحرم العملاء الأمريكيين من أي شيء – بل على العكس، توسع السوق للعديد من الشركات والصناعات الأمريكية من خلال خلق طلب أكبر على المنتجات والابتكارات الأمريكية.” وانتقد المتحدث بشدة ما وصفه بـ “الأخبار الكاذبة” التي تُقدم للكونغرس حول إمدادات الرقائق، معتبرًا إياها تضليلًا يهدف إلى خدمة أجندات معينة.
ترى إنفيديا أن السياسة المقترحة من شأنها أن تقلب “خطة عمل الذكاء الاصطناعي” التي وضعها الرئيس السابق دونالد ترامب، والتي كانت تهدف إلى تعزيز الريادة الأمريكية في هذا المجال. وتزعم الشركة أن تطبيق مثل هذه القيود الصارمة سيُفقد أمريكا فرصتها الذهبية للريادة في مجال الذكاء الاصطناعي والحوسبة على مستوى العالم، ويسمح لمنافسيها في دول أخرى باللحاق بها وتجاوزها. هذا الصراع يعكس حجم التحديات التي تواجه شركات التكنولوجيا الكبرى في ظل تداخل المصالح الاقتصادية والسياسية.
المنافسة المتزايدة في سوق شرائح الذكاء الاصطناعي: تحول المشهد التنافسي
تواجه إنفيديا تحديات متعددة الجوانب على الرغم من هيمنتها التاريخية على سوق الذكاء الاصطناعي. فإلى جانب القيود التنظيمية، من المتوقع أن تؤدي قيود التصدير الأمريكية والمنافسة المحلية المتزايدة من شركات صينية قوية مثل هواوي إلى تقليص حصة إنفيديا في سوق شرائح الذكاء الاصطناعي في الصين، وهي سوق حاسمة لنمو الشركة. تعزيز القدرات المحلية في الصين يعني تآكل تدريجي لسيطرة إنفيديا.
علاوة على ذلك، تعمل شركات الحوسبة السحابية الكبرى، بما في ذلك جوجل وأمازون وميتا، بشكل متزايد على تصميم وإنتاج شرائح الذكاء الاصطناعي المخصصة بها. هذه الشركات تسعى لتقليل اعتمادها على موردين خارجيين مثل إنفيديا، ولتحسين أداء الشرائح لتناسب أعباء العمل المحددة لمنصاتها. فمثلاً، تهدف وحدات معالجة الموتر (TPUs) من جوجل، مثل Ironwood، إلى تعزيز الكفاءة التشغيلية وخفض التكاليف، بينما تقدم حلولًا محسنة لتطبيقات الذكاء الاصطناعي الخاصة بها. هذا التحول يمثل تهديدًا مباشرًا لمكانة إنفيديا كمزود أساسي للرقائق في مراكز البيانات الضخمة.
كما تكتسب سلسلة AMD Instinct MI300X وIntel Gaudi 3 زخمًا كبيرًا في مجال مسرعات الذكاء الاصطناعي، وتقدم بدائل قوية لمنتجات إنفيديا. وقد صرحت AMD مؤخرًا أنها تتوقع نموًا في الإيرادات بمتوسط يزيد عن 35% خلال السنوات الثلاث إلى الخمس القادمة، مما يؤكد اشتداد المنافسة ودخول لاعبين جدد أقوياء إلى هذا السوق الحيوي الذي كان يهيمن عليه عدد قليل من الشركات. هذا المشهد التنافسي المتغير يتطلب من إنفيديا ابتكارًا مستمرًا واستراتيجيات تكيفية للحفاظ على ريادتها.
التاريخ المضطرب لأسهم إنفيديا: دروس من الماضي
على الرغم من هيمنتها الحالية وسمعتها كشركة رائدة في مجال الذكاء الاصطناعي، إلا أن سهم إنفيديا ليس غريبًا على التقلبات الحادة والمفاجئة في قيمته. فقد شهد السهم انخفاضًا بأكثر من 30% في أقل من شهرين في ثماني مناسبات مختلفة على مر السنين، وهو ما يكشف عن طبيعة سوق التكنولوجيا المتقلبة. هذه الانخفاضات لم تكن مقتصرة على الأزمات الصغيرة؛ فقد شهد السهم انخفاضًا هائلاً بنسبة 85% خلال الأزمة المالية العالمية في 2008، وبنسبة 68% خلال فقاعة الدوت كوم في أوائل الألفينيات. هذا التاريخ يُذكّر المستثمرين بالتقلبات الكامنة في قطاع التكنولوجيا، حتى بالنسبة للشركات الرائدة والمبتكرة. إنه يؤكد أن النجاح التكنولوجي لا يضمن دائمًا استقرارًا في الأداء المالي على المدى القصير، وأن تقييمات الأسهم قد تتأثر بعوامل اقتصادية كلية و”معنويات السوق”.
الخاتمة: نظرة إلى المستقبل وسط التحديات والفرص
على الرغم من التحديات الجسام التي تواجهها إنفيديا – من تراجع الأسهم الأخير والقيود التنظيمية المحتملة إلى المنافسة الشرسة والمتنامية في سوق شرائح الذكاء الاصطناعي – إلا أن الشركة لا تزال تتمتع بقوة مالية كبيرة وتفوق تكنولوجي لا يمكن إنكاره. فقد أعلنت الشركة عن نمو مذهل في الإيرادات بنسبة 71.6% على مدار الاثني عشر شهرًا الماضية، مما يدل على قدرتها على تحقيق الإيرادات حتى في الأوقات الصعبة. كما تحافظ على هامش تدفق نقدي حر قوي بنسبة 43.6% وهامش تشغيل مرتفع بنسبة 58.1%، وهي مؤشرات تدل على كفاءة إدارية ونموذج عمل فعال.
تظل إنفيديا لاعبًا محوريًا لا غنى عنه في ثورة الذكاء الاصطناعي، ومكانتها في طليعة هذه الصناعة لا تزال راسخة وقوية. ومع ذلك، سيتعين على الشركة التنقل بحذر ودهاء عبر المشهد الجيوسياسي المتغير والتحديات التنافسية لضمان استمرار نموها وريادتها. يترقب المستثمرون والمحللون على حد سواء نتائج أرباح إنفيديا الأربعاء بفارغ الصبر، حيث ستوفر هذه النتائج رؤى حاسمة وواضحة حول مسار الشركة المستقبلي في هذا السوق الديناميكي وسريع التطور. إن القدرة على التكيف والابتكار المستمر والتفاوض الذكي مع البيئة السياسية والاقتصادية المعقدة ستكون مفتاح إنفيديا للحفاظ على موقعها كقوة دافعة للتقدم التكنولوجي والمالي العالمي. في نهاية المطاف، سيحدد مدى نجاحها في تحقيق التوازن بين الابتكار والسياسة مصيرها في السنوات القادمة.
