BPCE تُدخل تداول العملات المشفرة إلى تطبيقاتها المصرفية: خطوة تاريخية في المشهد المالي الفرنسي
تتواصل ثورة العملات المشفرة في تشكيل المشهد المالي العالمي، وها هي الآن تصل إلى عقر دار المؤسسات المصرفية التقليدية الكبرى في أوروبا. في خطوة تعد علامة فارقة في دمج الأصول الرقمية بالخدمات المصرفية التقليدية، بدأت مجموعة BPCE، ثاني أكبر مجموعة مصرفية في فرنسا، في السماح لعملائها بتداول العملات المشفرة مباشرة عبر تطبيقاتها المصرفية على الهاتف المحمول. هذا التطور لا يمثل مجرد خدمة جديدة للعملاء، بل يعكس تحولاً استراتيجياً في القطاع المصرفي استجابة للضغوط التنافسية من شركات التكنولوجيا المالية المتخصصة وتزايد اهتمام المستهلكين بالعملات الرقمية.
انطلاق الخدمة: تفاصيل الإطلاق المحدود والخطط المستقبلية
بدأت مجموعة BPCE، التي تضم بنك بوبولير (Banque Populaire) وكايس ديبارن (Caisse d’Épargne)، بإطلاق هذه الخدمة الجديدة يوم الاثنين لمجموعة مختارة من المستخدمين. في المرحلة الأولية، سيتمكن حوالي 2 مليون عميل في أربعة فروع إقليمية من شراء وبيع العملات المشفرة الرئيسية مثل البيتكوين (Bitcoin)، والإيثيريوم (Ethereum)، وسولانا (Solana)، والعملة المستقرة يو إس دي سي (USDC) مباشرة من خلال تطبيقاتهم المصرفية المعتادة.
يشمل الإطلاق الأولي فروعاً محددة، من بينها فرع بروفانس ألب كوت دازور (Provence-Alpes-Côte-d’Azur) التابع لـ Caisse d’Épargne وقسم إيل دو فرانس (Île-de-France) التابع لـ Banque Populaire. هذا النهج المحدود والمتحكم فيه يعكس حرص BPCE على مراقبة الاستخدام المبكر للخدمة عن كثب. الهدف من هذه المراقبة الدقيقة هو تحديد أي مشكلات فنية محتملة ومعالجة تدفق تجربة المستخدم قبل التوسع على نطاق أوسع. إذا سارت الأمور وفقًا للخطة، تنوي المجموعة المصرفية توسيع هذه الميزة لتشمل 25 كيانًا إقليميًا متبقيًا بحلول عام 2026، مما سيصل بالخدمة إلى قاعدة عملاء تجزئة تقدر بنحو 12 مليون عميل. هذا التوسع التدريجي يؤكد على التزام البنك بتقديم تجربة سلسة وآمنة لعملائه. وقد أكدت التقارير الإخبارية على هذا الإطلاق، حيث غرد رافائيل بلوخ من The Big Whale في ديسمبر 2025، مشيرًا إلى أن BPCE أصبحت تسمح لعملائها بشراء الأصول المشفرة، وأن هذا يمثل خطوة أولى ضمن خطة أكبر.
Hexarq: الوحدة المتخصصة لإدارة الأصول الرقمية وضمان الأمان
لضمان إدارة سلسة وآمنة لحسابات العملات المشفرة الخاصة بالعملاء، أنشأت BPCE وحدة منفصلة مخصصة لهذا الغرض تسمى “هيكسارك” (Hexarq). سيحصل كل مستخدم على حساب أصول رقمية مخصص داخل التطبيق، تتم إدارته بواسطة Hexarq بشكل مباشر، بدلاً من توجيه المعاملات إلى بورصات خارجية أو محافظ رقمية تابعة لأطراف ثالثة.
يضمن هذا الترتيب بقاء حضانة الأصول الرقمية داخل النظام البيئي الآمن للبنك. وهذا يوفر طبقة إضافية من الثقة والأمان للعملاء الذين قد يترددون في التعامل مع منصات تداول العملات المشفرة المستقلة. ومع ذلك، تأتي هذه الراحة والأمان المصرفي بتكلفة. تتضمن الخدمة رسومًا شهرية قدرها 2.99 يورو، بالإضافة إلى عمولة تداول بنسبة 1.5% على كل معاملة. على الرغم من أن هذه الرسوم قد تكون أعلى من تلك التي تفرضها بعض منصات التداول المخصصة للعملات المشفرة، إلا أن عامل الثقة والتكامل المباشر مع الحسابات المصرفية التقليدية قد يكون جذابًا لعدد كبير من المستخدمين، خاصةً أولئك الذين يفضلون التعامل مع مؤسسات مالية راسخة.
لماذا تتحرك البنوك التقليدية نحو العملات المشفرة الآن؟ ضغط التكنولوجيا المالية
لا يمكن فصل قرار BPCE هذا عن المشهد المتغير للتكنولوجيا المالية (Fintech) والضغط المتزايد الذي تمارسه الشركات الناشئة في هذا القطاع. لقد أشارت التقارير إلى صعود منافسي التكنولوجيا المالية كسبب رئيسي يدفع البنوك التقليدية لمثل هذه الخطوة. شركات مثل ريڤولوت (Revolut)، وديبلوك (Deblock)، وبيتستاك (Bitstack)، وترايد ريبابليك (Trade Republic) كانت سباقة في بناء عروض العملات المشفرة وجذبت عددًا كبيرًا من المستخدمين الأفراد في وقت مبكر.
تدرك البنوك التقليدية الآن أنها تخاطر بخسارة العملاء الأصغر سنًا والأكثر ميلاً للابتكار ما لم تتطابق مع هذه الخدمات الرقمية المتطورة. لقد بدأت بعض البنوك في أوروبا بالفعل في تقديم خدمات تداول العملات المشفرة داخل تطبيقاتها. على سبيل المثال، يدعم بنك BBVA الإسباني تداول البيتكوين والإيثيريوم، ويسرد Openbank التابع لمجموعة سانتاندر خمس عملات مشفرة، بينما يوفر بنك Raiffeisen في فيينا ميزات مماثلة من خلال شراكة مع Bitpanda. إن دخول BPCE إلى هذا المجال يعزز هذا الاتجاه وقد يدفع مؤسسات إقراض كبيرة أخرى إلى اتخاذ خطوات مماثلة لتبقى قادرة على المنافسة في السوق المالية المتطورة. هذا يشير إلى تحول استراتيجي عميق في القطاع المصرفي، حيث لم تعد العملات المشفرة مجرد ظاهرة هامشية بل أصبحت جزءًا لا يتجزأ من الخدمات المالية المستقبلية.
الرسوم والتوازن بين التكلفة والثقة والراحة
كما ذكرنا، فإن الرسوم التي حددتها BPCE، سواء كانت الرسوم الشهرية أو عمولات التداول، هي أعلى من تلك التي تفرضها العديد من المنصات المتخصصة في العملات المشفرة. ومع ذلك، قد يقبل العديد من المستهلكين هذه التكاليف الأعلى مقابل المزايا التي تقدمها BPCE. تتجلى هذه المزايا في ربط العملات المشفرة مباشرة بحساباتهم المصرفية التقليدية وخدماتهم اليومية.
بالنسبة لكثير من المستخدمين، قد تكون الثقة والراحة أكثر أهمية من أدنى رسوم ممكنة. التعامل مع بنك راسخ ومعروف يوفر إحساسًا بالأمان والشرعية قد لا يتوفر بالضرورة عند التعامل مع منصات العملات المشفرة الأصغر أو الأقل تنظيمًا. إن دمج تداول العملات المشفرة ضمن التطبيق المصرفي الحالي يعني تجربة مستخدم مبسطة، حيث لا يحتاج العملاء إلى إدارة حسابات متعددة أو تعلم واجهات جديدة. هذا التكامل يزيل الحواجز أمام دخول عالم العملات المشفرة، مما يجعله في متناول شريحة أوسع من الجمهور. البنوك تستفيد من قاعدة عملائها الحالية وعلاقتها طويلة الأمد معهم، مقدمة لهم فرصة للاستثمار في الأصول الرقمية ضمن بيئة يثقون بها بالفعل.
المستقبل: ماذا يعني هذا للمشهد المالي العالمي؟
إن إطلاق BPCE لخدمة تداول العملات المشفرة يمثل أكثر من مجرد خدمة جديدة؛ إنه مؤشر قوي على الاتجاه المستقبلي للتمويل. نتوقع أن يحذو المزيد من البنوك الكبرى حذو BPCE، مما سيؤدي إلى تسريع دمج العملات المشفرة في النظام المالي السائد. هذا التحول سيجلب معه تحديات وفرصًا للبنوك التقليدية. بينما سيتعين عليها التكيف مع التقنيات الجديدة والضغوط التنظيمية المتغيرة، فإنها ستتمكن أيضًا من الوصول إلى سوق جديد تمامًا من المستثمرين وتقديم خدمات أكثر شمولاً لعملائها.
كما سيساهم هذا التوجه في زيادة قبول العملات المشفرة كأصل استثماري مشروع ووسيلة تبادل، مما يعزز من شرعيتها واستقرارها على المدى الطويل. دور التنظيمات الحكومية سيكون حاسماً في تشكيل هذا السوق، حيث ستحتاج الهيئات التنظيمية إلى موازنة الابتكار مع حماية المستهلك والاستقرار المالي. في النهاية، ستكون تجربة المستخدمين النهائيين هي المحك الحقيقي لنجاح هذه المبادرات، مع التركيز على سهولة الاستخدام، والأمان، والشفافية.
في الختام، تعد خطوة BPCE جريئة ومهمة، وتؤكد على أن العملات المشفرة لم تعد مجرد تيار فرعي في عالم المال، بل أصبحت جزءًا لا يتجزأ من مستقبله. إنها تمهد الطريق لمستقبل واعد حيث تتلاقى الخدمات المصرفية التقليدية مع ابتكارات الأصول الرقمية، لتقديم تجربة مالية متكاملة وحديثة لجميع العملاء.
