جيه بي مورجان يختار ماركس كشركة مقاصة لتسوية المدفوعات على شبكة البلوكتشين الخاصة به
في تحول لافت يعكس التغيرات المتسارعة في المشهد المالي العالمي، يواصل بنك جيه بي مورجان، أحد عمالقة القطاع المصرفي وأكبر بنك في الولايات المتحدة، تعزيز مكانته في مجال ابتكار التمويل اللامركزي (DeFi) مع الحفاظ على أسسه الراسخة في التمويل التقليدي (TradFi). هذا التوجه الجديد يتجلى بوضوح في شراكته الأخيرة مع مؤسستين ماليتين بارزتين، مما يؤكد التزامه المتزايد بدمج تقنيات البلوكتشين في صميم عملياته. تأتي هذه الخطوة في إطار سعي البنك للتوسع في استخدامات تقنية البلوكتشين لتبسيط العمليات المالية المؤسسية، وذلك بالرغم من موقفه التاريخي الذي كان أكثر حذرًا تجاه العملات المشفرة.
يعد هذا التطور علامة فارقة في رحلة جيه بي مورجان نحو تبني الابتكار الرقمي، حيث يشير إلى قبول متزايد للأصول الرقمية والأنظمة القائمة على البلوكتشين كجزء لا يتجزأ من البنية التحتية المالية الحديثة. من خلال هذه الشراكات، يسعى البنك إلى دمج الكفاءات التي تقدمها البلوكتشين مع الاستقرار والأمان الذي يميز التمويل التقليدي، مما يمهد الطريق لمستقبل يزداد فيه تداخل العالمين الماليين.
تعزيز الأسس الصلبة: شراكة استراتيجية مع ماركس وبريفان هاورد ديجيتال
يأتي هذا الإعلان في ظل سعي متواصل لتعزيز البنية التحتية المالية وتحسين كفاءة العمليات. كشفت شركة ماركس جروب بي إل سي (Marex Group Plc)، وهي شركة خدمات مالية متداولة علنًا ومدرجة في بورصة ناسداك تحت الرمز (MRX)، الأسبوع الماضي عن تعاونها مع بريفان هاورد ديجيتال (Brevan Howard Digital)، الذراع الرقمي لإدارة الأصول. الهدف الأساسي من هذا التعاون الاستراتيجي هو الاستفادة من نظام الدفع الرقمي Kinexys التابع لبنك جيه بي مورجان لتحقيق مجموعة من الفوائد الرئيسية، بما في ذلك تقليل المخاطر التشغيلية وتحقيق كفاءة أعلى في المدفوعات والتسويات.
تتمثل أهمية هذه الشراكة في أن ماركس ستكون أول شركة مقاصة تستخدم حسابات الإيداع القائمة على البلوكتشين ضمن هذا النظام الرائد. هذه الخطوة تمثل نقلة نوعية في كيفية إدارة التسويات، حيث ستمكن ماركس من تبسيط تعاملاتها مع قاعدة عملائها بشكل كبير. يبرهن هذا التطور على مرونة نظام Kinexys وقدرته على التكيف مع احتياجات المؤسسات المالية الكبيرة والمتطورة، مما يعزز من مكانته كحل رائد في مجال المدفوعات الرقمية المؤسسية.
من جانبها، انضمت بريفان هاورد ديجيتال إلى Kinexys العام الماضي، ومنذ ذلك الحين وهي تعمل بجد مع شركاء الصناعة الآخرين للمساهمة في تطوير نظام بيئي متكامل للبنية التحتية القابلة للبرمجة على البلوكتشين. هذا التعاون المتعدد الأطراف يعزز من قدرات Kinexys الابتكارية، ويضمن استمرارية تطوره ليواكب أحدث التقنيات واحتياجات السوق.
نظام المدفوعات Kinexys، الذي يعد جزءًا محوريًا من وحدة أعمال البلوكتشين الرائدة في بنك جيه بي مورجان، يمتلك قدرات فريدة تتيح للشركاء إمكانية إجراء تسويات فورية على مدار الساعة وفي الوقت الفعلي. يتم ذلك عبر شبكة حساباته القائمة على البلوكتشين، مما يلغي الحاجة إلى الانتظار لأيام عمل أو الاعتماد على أنظمة تسوية تقليدية أبطأ وأكثر تكلفة. بفضل هذه التقنية المتطورة، يمكن لماركس وبريفان هاورد ديجيتال تحقيق تحسينات جوهرية في عدة جوانب:
- تحسين أوقات تسوية المدفوعات: الانتقال من تسويات تستغرق أيامًا إلى تسويات فورية، مما يحرر رأس المال ويعزز السيولة.
- تقليل المخاطر: تقليل مخاطر الطرف المقابل والمخاطر التشغيلية المرتبطة بالعمليات اليدوية أو ذات التأخير.
- تخفيض التكاليف: خفض التكاليف المرتبطة بالرسوم المصرفية التقليدية والعمليات الورقية والمعالجة اليدوية.
- الحفاظ على الأمن المؤسسي: الاستفادة من البنية التحتية الآمنة والموثوقة التي توفرها قنوات الدفع التقليدية (TradFi)، مع إضافة طبقة الشفافية والكفاءة التي توفرها البلوكتشين.
هذا المزيج من الابتكار والأمان يضع Kinexys في طليعة الحلول المالية الرقمية، ويعد نموذجًا لكيفية دمج التكنولوجيا الحديثة مع متطلبات الأنظمة المالية التقليدية.
وقد علق تيري هولينغسورث، الرئيس العالمي لمبيعات العقود الآجلة والمقاصة خارج البورصة في ماركس، على هذه المبادرة قائلاً:
“إن Kinexys من جيه بي مورجان هي الجيل القادم من البنية التحتية للأسواق المالية. من خلال تمكين الدفع والتسوية القابلة للبرمجة، تستفيد المنصة من الأتمتة لإطلاق فائدة الأصول وتقليل المخاطر. كشركة تضع الابتكار وخدمة العملاء في صميم أعمالها، نحن فخورون بالتعاون مع بريفان هاورد ديجيتال في هذه المبادرة ذات التطلع المستقبلي، مما يجلب كفاءة تشغيلية أكبر لعملائنا وكذلك للسوق الأوسع.”
تؤكد تصريحات هولينغسورث على الأهمية الاستراتيجية لـ Kinexys كبنية تحتية للأسواق المالية من الجيل الجديد. إن التركيز على المدفوعات والتسوية القابلة للبرمجة يشير إلى تحول كبير نحو أتمتة العمليات المالية، مما يطلق العنان لفائدة الأصول ويقلل من المخاطر الكامنة في الأنظمة اليدوية أو الأقل تطورًا. بالنسبة لماركس، التي تضع الابتكار وخدمة العملاء في صميم استراتيجيتها، فإن هذا التعاون مع بريفان هاورد ديجيتال هو خطوة إلى الأمام تجلب كفاءة تشغيلية أكبر ليس فقط لعملائها ولكن للسوق الأوسع أيضًا، مما يعكس رؤية مشتركة لمستقبل مالي أكثر تكاملاً وفعالية. يمثل هذا التعاون دليلاً واضحاً على أن المؤسسات المالية الكبرى لم تعد تنظر إلى تقنية البلوكتشين كتهديد، بل كأداة قوية لتحسين الكفاءة والابتكار في الخدمات المالية.
نظرة تاريخية: رحلة جيه بي مورجان في عالم البلوكتشين
لم تكن المؤسسة المالية العالمية البارزة جيه بي مورجان دائمًا بهذه المرونة تجاه العملات المشفرة والبلوكتشين كما هي عليه اليوم. ففي الماضي القريب، كان الرئيس التنفيذي للبنك، جيمي ديمون، قد وصف البيتكوين بأنها “احتيال” في مناسبات عديدة، وما زال موقفه يحمل قدرًا من الحذر حتى هذه اللحظة. إلا أن تصرفات البنك الفعلية على أرض الواقع تعكس مسارًا مختلفًا تمامًا، وتظهر تطورًا منهجيًا في استكشاف وتبني هذه التقنيات.
مراحل التطور الرئيسية: من كوروم إلى كينكسيس
-
إطلاق كوروم (Quorum) في 2016:
بدأت رحلة جيه بي مورجان في هذا الفضاء المتغير بسرعة في عام 2016، مع إطلاق منصة البلوكتشين الخاصة بهم المبنية على إيثيريوم، والتي أطلق عليها اسم “كوروم” (Quorum). كانت هذه خطوة جريئة في ذلك الوقت، حيث لم تكن المؤسسات المالية الكبرى قد تبنت البلوكتشين بعد بهذا القدر من الجدية. كانت كوروم تهدف إلى توفير بلوكتشين مؤسسي خاص ومرخص يلبي احتياجات البنوك والشركات الكبرى، مع التركيز على الخصوصية والأداء. لقد مهدت هذه المبادرة الطريق للبنك لاكتساب خبرة عملية في تطوير ونشر تطبيقات البلوكتشين.
-
إدخال JPM Coin في 2019:
تبع ذلك في عام 2019 إطلاق عملتهم الخاصة، JPM Coin. هذه العملة الرقمية المستقرة، المدعومة بالدولار الأمريكي، كانت تهدف إلى تسهيل المدفوعات الفورية بين المؤسسات عبر شبكة البلوكتشين، مما يقلل من التأخير والتكاليف المرتبطة بالتحويلات المصرفية التقليدية. كانت JPM Coin خطوة عملية نحو استخدام البلوكتشين لتسريع وتحسين كفاءة عمليات المدفوعات بالجملة.
-
دمج المبادرات تحت أونيكس (Onyx) في 2020:
في تطور لافت في عام 2020، تم دمج كلتا المبادرتين (كوروم وJPM Coin) تحت مظلة واحدة أطلق عليها اسم “أونيكس” (Onyx). يشير هذا الدمج إلى استراتيجية أكثر تماسكًا وتكاملًا لمشاريع البلوكتشين داخل البنك، بهدف بناء نظام بيئي شامل للخدمات المالية القائمة على البلوكتشين، بدلاً من التعامل مع كل مشروع على حدة. كان أونيكس بمثابة نقطة ارتكاز لمختلف مبادرات البلوكتشين للبنك.
-
تحول أونيكس إلى كينكسيس (Kinexys) في أواخر 2023:
في أوائل نوفمبر من العام الماضي، شهدت أونيكس تحولاً جديدًا، حيث أصبحت تعرف باسم “كينكسيس” (Kinexys). هذا التغيير لم يكن مجرد إعادة تسمية، بل كان يمثل تطورًا في رؤية البنك لمنصة المدفوعات الرقمية الخاصة به، مع تركيز أكبر على التفاعل الخارجي والشراكات. تشير التقارير إلى أن المنصة قد عالجت بالفعل أكثر من 1.5 تريليون دولار أمريكي من حجم المعاملات منذ إنشائها، بمتوسط حجم معاملات يومي مذهل يبلغ 2 مليار دولار أمريكي، مما يؤكد على حجم ونطاق عملياتها وتأثيرها المتزايد في السوق المالية العالمية.
تطلعات مستقبلية ومبادرات حديثة
لم يتوقف تطور جيه بي مورجان عند Kinexys، فقد شهد العام الحالي إطلاق البنك لعملة جديدة، JPMD، والتي ستمثل ودائع الدولار في البنك، مما يعزز من استخدام العملات الرقمية المستقرة المدعومة بالعملات التقليدية ضمن بيئته المؤسسية. تُعَد JPMD تطورًا طبيعيًا لـ JPM Coin، حيث تهدف إلى توسيع نطاق استخدام الودائع الرقمية وتمكين التسويات الفورية لأصول إضافية.
علاوة على ذلك، هناك شائعات متزايدة تشير إلى أن البنك سيبدأ في تقديم قروض مدعومة بالعملات المشفرة العام المقبل. هذه الخطوة، إذا تحققت، ستمثل نقطة تحول كبيرة في دمج الأصول الرقمية ضمن المنتجات المالية التقليدية، وتفتح الباب أمام سيولة أكبر في سوق الأصول المشفرة، وتوفر فرصًا جديدة للمؤسسات التي تمتلك كميات كبيرة من الأصول الرقمية للحصول على تمويل دون الحاجة لبيعها.
يجب علينا أيضًا أن نذكر تحركهم الطموح للانضمام إلى كوين بيس (Coinbase)، أكبر بورصة للعملات المشفرة في الولايات المتحدة. هذه الشراكة ستسمح لحاملي بطاقات الائتمان من تشيس (Chase)، وهو فرع الخدمات المصرفية الاستهلاكية التابع لجيه بي مورجان، بتمويل حساباتهم على منصة التداول باستخدام بطاقاتهم المصرفية مباشرة. هذا التعاون يفتح الباب أمام قاعدة جماهيرية أوسع للوصول إلى عالم العملات المشفرة بشكل أكثر سلاسة، ويسلط الضوء على تزايد القبول والاندماج بين التمويل التقليدي ومنصات الأصول الرقمية. إنها خطوة مهمة نحو جعل شراء العملات المشفرة أكثر سهولة واندماجًا في الحياة المالية اليومية للمستهلكين.
هذه المبادرات المتتالية لجيه بي مورجان لا تعكس فقط تكيّف البنك مع المشهد المالي المتغير، بل تؤكد أيضًا على دوره كلاعب رئيسي في تشكيل مستقبل هذا الاندماج بين التقنيات المالية القديمة والحديثة. إنها تظهر أن أكبر المؤسسات المالية تدرك الإمكانات الهائلة للبلوكتشين والعملات الرقمية في إحداث ثورة في طريقة عمل الأسواق المالية العالمية.
الخاتمة: مستقبل مالي رقمي
في الختام، يمثل اختيار جيه بي مورجان لماركس كشركة مقاصة لنظام Kinexys القائم على البلوكتشين علامة فارقة في رحلة البنك نحو دمج الابتكار الرقمي في عملياته الأساسية. هذه الشراكات والتطورات الأخيرة لا تعزز فقط كفاءة وأمان المعاملات المالية من خلال تسريع التسويات وتقليل المخاطر، بل تضع جيه بي مورجان في طليعة المؤسسات التي تقود التحول نحو مستقبل مالي يرتكز على تقنيات البلوكتشين والعملات الرقمية.
إن الخطوات المتتالية للبنك، من إطلاق كوروم وJPM Coin، مروراً بدمجها في أونيكس، وصولاً إلى التحول نحو Kinexys والمبادرات الجديدة مثل JPMD والقروض المدعومة بالعملات المشفرة، كلها تشير إلى استراتيجية واضحة ومدروسة. جيه بي مورجان لا يكتفي بمواكبة التغيرات، بل يسعى بنشاط إلى تشكيل مستقبل الخدمات المالية، مما يمهد الطريق لمزيد من التكامل بين عوالم التمويل التقليدي واللامركزي ويخلق نموذجاً جديداً للكفاءة والأمان في الأسواق العالمية.